قبل أكثر من عقد، وصلتني في لندن رسالة غير متوقعة. في الشكل، كانت رسالة عادية من النوع القديم، وتحمل طابعا أخضر من طوابع الملكة. اما في المضمون، فكانت رسالة غير عادية اطلاقا: الطيب صالح، بخط يده وليس بالاملاء على الطابعين، يكتب في ادب سوداني جم، وفي كرم سوداني خالص، صفحتين صغيرتين ويزيد، من التقدير.

فرحت جدا ووجمت طويلا. هذه شهادة لا تعطى لأي كان. وهذا اديب ذائع رائع يقرر ان يخصص وقتا من يومه واسطرا من عناقيده ويمرّ ببائع الطوابع، ثم ببريد الحارة، لكي يبعث برسالة الى رجل تربطه به مودة كثيرة ومعرفة لا تذكر. لكنك لا تستطيع ان تنزع من الكاتب عِقده ولا غباءه المتمادي. فقد جلست افكر، ماذا افعل بالرسالة، غير حفظها في حقيبة متنقلة معرضة للضياع. وماذا اراد الطيب صالح من وراء الرسالة؟ هل اراد حقا ان اجيبه؟ ماذا في الاجابة سوى الشكر ومبادلته كلمات المودة والتقدير؟ هل هذا ما ينقص روائيا تُكتَبُ عنه اهم المقالات في الشرق والغرب منذ أربعين عاما؟

لا. لن ارد. فالطيب يعرف انني لا انشر في زاويتي الرسائل التي تخجل تواضع الذين فيهم خجل. وان هذه تجارة لن انضم اليها في اي ظرف، لانها عمل مضحك، بالاضافة الى انه ممل وسقيم وحشو اسطر. ولكن الكاتب هنا، والشاهد هنا، غير عادي. ولا الشهادة. فليس في كل يوم يذهب الطيب صالح الى بائع الطوابع ولا لديه كل هذا الوقت.

على ان عقدة الكاتب كانت حاضرة ناضرة ايضا: اذا كان هذا هو حقا رأي الطيب صالح، فلماذا وضعه في رسالة خاصة لن يقرأها احد سواي؟ لماذا لم يبعث بها الى الجريدة؟ لماذا اكتب عنه في عناوين الصحف ويكتب عني في عنواني البريدي؟ هل هو يخجل بما يريد قوله؟ فلماذا يكتبه اذن؟ من طلب منه ذلك؟ انا لا اريد من الطيب «وثيقة» ابرزها عند الحاجة امام المحاكم الادبية. ولا اريد شيئا. ولم اكن اتوقع شيئا في اي حال. ولكن ما دام قد تكرّم فلماذا الاستحياء؟

طويت الرسالة وطويت الموضوع. ولم أرسل الى شرق لندن حتى اشعارا بالاستسلام. والتقيت الطيب فيما بعد في لندن والقاهرة. لم يطلب مني اشعارا بالوصول. ولم يكن من الممكن ان يزيد إعجابي الأدبي به. اما اعجابي الشخصي بخصائله وشمائله وطباعه، فكان يزداد كل مرة التقيه. وعندما منعت الخرطوم الرسمية كتبه، تذكرت كيف منعت الكنيسة كتب جبران خليل جبران، وكيف قال «المفتشون» ان الشياطين هي التي تعزف في كمان باغانيني، وكيف ان عامل جراج اصدر قرارا في اعمال نجيب محفوظ. مسكين الرقيب.

الى اللقاء