لم يتضح بعد ما إذا كان الرئيس جورج بوش وأعوانه من حاخامات الإدارة قد اعطوا ضوءاً أخضر أو أحمر أو برتقالياً لإيهود اولمرت كي يمضي في ما يسميه خطة «الانطواء». كان هناك فارق بسيط في التعبير عن المواقف بين الادارة والكونغرس، من دون ان يعني ذلك اختلافهما على الجوهر. الكونغرس يستطيع ان يكون بالغ التعصب والتطرف والانفلات، أما الإدارة فمضطرة الى مراعاة هنا ومراوغة هناك، أي الى الكثير من الكذب والخداع كي تبدو ذات «مصداقية».

خلاصة الحراك الدولي في الاسبوعين الأخيرين تظهر ان التقويم الأول لسياسة التجويع جاء سلبياً تماماً. لا شيء يمنع الاميركيين والاسرائيليين من الاستمرار في تلك السياسة، فهم مزمنون في الرعونة والقتل بدم بارد، إلا انها أعطت نتائج سلبية لا تناسبهم تماماً، ولذلك برزت الحاجة الى تغيير النغمة من دون تغيير الشروط والأهداف. وكان على اولمرت ان يفهم ان الحليف الأكبر لم يبدل دعمه وانحيازه لاسرائيل، لكن الظروف تتطلب بعض المناورات والالتفافات كي يبدو اللجوء الى «الانطواء» مبرراً وطبيعياً.

وهكذا ازدان الأفق بإشارات كأنها واقعية وايجابية، بل كأنها واعدة. من ذلك مثلاً الاهتمام بايجاد «آلية» لإيصال مساعدات الى السلطة الفلسطينية، ولو بشيء من المماطلة والتعجيز. ثم، فجأة، عودة واشنطن واسرائيل الى الرهان على الرئيس محمود عباس بعدما جهدتا في الاساءة الى مكانته. بل ان تمكين الحوار الوطني الفلسطيني من الانعقاد ومحاولة ايجاد برنامج سياسي للمرحلة المقبلة، يعتبران في اطار اعطاء فرصة «أخيرة» للفلسطينيين قبل أن تدخل «خطة الانطواء» حيز التطبيق. وفي الأيام الأخيرة شاعت أفكار عن تحرك عربي لمواكبة المسعى الفلسطيني... لكن الغائب حتى الآن هو ماذا عند الأميركيين والاسرائيليين، وهل لديهم أي جديد مختلف عن الشروط المعروفة؟

بالطبع لا يكفي أن يقول الاسرائيليون - وهم لم يقولوا ذلك رسمياً بعد - انهم مستعدون لاطلاق مفاوضات مع الفلسطينيين، ليكون لدينا معطى جديد و «ايجابي». لا بد أن تعلن واشنطن أنها تدعم إحياء عملية السلام، وتريد لها أن تدور في أجواء جدية تريد أن تحقق فعلاً نتائج تذهب في اتجاه حل نهائي عادل. ولا بد أن تتعهد اسرائيل مسبقاً بأنها مستعدة للتخلي عن «خطة الانطواء» لمصلحة ما يمكن أن يتفق عليه مع الفلسطينيين، لأن الحلول المفروضة والأمر الواقع وحتى موازين القوى لا تستطيع أن تنتج حلاً نهائياً غير مطعون في شرعيته.

هل حان في الوقت نفسه الظرف المناسب للعودة الى «المبادرة العربية للسلام، بالأحرى هل آن الأوان لإعادة الاعتبار الى هذه المبادرة بعدما تجاهلها الاميركيون والاسرائيليون طويلاً حتى لو أشير اليها في «خريطة الطريق»؟

واستطراداً هل حان الوقت لاجراء بعض التعديلات على نص هذه المبادرة لتصبح «أكثر قبولاً»، لكن هل إذا اصبحت مقبولة اميركياً واسرائيلياً ستكون مقبولة لدى «حماس» و «الجهاد». الاشكالية واردة، مثلما ان الخداع الاميركي - الاسرائيلي وارد دائماً. وبالتالي فإن ثمن احياء المبادرة العربية يتطلب اميركياً ان يساعد العرب اسرائيل على اتمام «انطوائها» بسلام.

لا شك ان اطلاق التفاوض مجدداً بين الفلسطينيين والاسرائيليين قد ينعش الرئاسة الفلسطينية، لكنه قد يحرجها ويربكها ايضاً اذا تبين ان العقلية التفاوضية الاسرائيلية لم تتغير، بل ازدادت طمعاً وجشعاً واحتقاراً لاعتبارات القانون الدولي والحقوق المشروعة. لقد بذل الاسرائيليون في السابق، خصوصاً مع سيئ الذكر ارييل شارون كل جهد لاطاحة المفاوضات كخيار، واستغلوا كل شيء وبالأخص أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001 للحصول على ترخيص من بوش بأن يعملوا ما يحلو لهم غير عائبين بأي قيود أو حواجز. لذلك لا يمكن الوثوق بـ «عودتهم» الى التفاوض وكأنها تغيير استراتيجي في منهجهم، ومع الترحيب بها يتوجب عدم نسيان أنها قد تكون موجهة فقط الى زيادة الاستقطاب والتربص وحتى التحارب بين الرئاسة والحكومة الفلسطينيتين، وبين «فتح» و «حماس».