تقترب مباهلة الحوار الوطني من خواتيمها. اللحظة مدمجة باقتراب صدور مذكرات جلب دولية قد تكون مدوية بحق الضالعين الكبار في اغتيال رفيق الحريري. على الأقل هذا ما يستشعر به قسم غير قليل من اللبنانيين. على الأقل هذا ما تنبئ به مذكرات الجلب القراقوشية بحق نائبين وصحافي، علماً بأن ما تشرّعه هذه المذكرات الأخيرة هو جواز خطف المعنيين بالمثول أمام العدالة السورية.

عشية هذه اللحظة المحتدمة تنفذ اسرائيل مجدّداً الى المعادلة اللبنانية، والمصيبة تكبر اذا ثابرنا على مقاربة عودة إسرائيل شمالاً بمجرد كبح نزوة صاروخية مبهمة المصدر. ما أرادت أن تقوله اسرائيل بوضوح شديد قبل أيام هو أنها عادت. وأن تنفيذ القرار 1559 شأن لا يخص لبنان وطوائفه، ولا المتوسطين العرب لبعض هذه الطوائف عند الدول الكبرى.

مع ذلك، ستنعقد المباهلة للخوض مجدداً في المنظومة الدفاعية العتيدة، وسيأتي كل طرف ليجاهر بأن الوقائع الأمنية الأخيرة تزيده تمسكاً بقناعاته. مريد <اتفاق الهدنة> سيتمسك به على أنه خشبة خلاص، ومدّعي <توازن الرعب> سيتباهى بتجليات مثل هذا التوازن لحظة التصدّي. سيضيع امكان التسوية الداخلية مرة أخرى، علماً بأن المواضيع التي يُزْعَم أن طاولة الحوار <أجمعت> عليها ستنعدم قيمتها قولاً وعملاً ما إن تفض طاولة الحوار. البلاد بهذا المعنى مقبلة على فترة تصعيد جديدة. على الأقل شبح هذه الفترة يطل برأسه. ليس من حلقات أمان متعقلة تحول دونه. من زعم أنه يشكل <قوة ثالثة> تاه ورجع الى 8 آذار. من كان نقدياً الى جانب 14 آذار ما عاد يمكنه أن يجد مكانه في زحمة التبريرات التي لا آخر لها للعجز عن الإقدام في ما عنى قضايا من جملتها موضوع الرئاسة، أو للإفراط في صلف هذه القوى لجهة العلاقة مع أكثرية طائفتين من ثلاث في البلد، أي الموارنة والشيعة، وهذا نقوله بصرف النظر عما تتحمله الزعامتان الأكثريتان لهاتين الطائفتين في ما هو حاصل من إجهاض لسبل التسوية الداخلية، حيث لا أحد يقبل تقديم أي تنازل. وان بدا ان بادرة صالحة ربما وجدت طريقها الى طاولة الحوار، تعود في اليوم التالي وتتبخر أضغاثاً.

الرجاء الوحيد في اللحظة الأخيرة هو أن تطرح <المقامات الوطنية> على نفسها رياضة حوارية جديدة، يكون محورها معالجة السؤال التالي: ما العمل ان فرط عقد الحوار؟ انه الأمل الوحيد في إنعاش الدينامية التي سادت في الشهور الأخيرة: أسابيع توتير ثم لحظات صفو وإنصات وسط كم من المبارزات الكلامية التي ستضيع محاضرها هي الأخرى.

لكن على من تقرأ مزاميرك؟ كي يمدّد المباهلون حوارهم تحت عنوان <وماذا نفعل ان فرط عقد الحوار> تترتب عليهم مصارحة أولى، وتمهيدية، ليتهم تجرأوا عليها في اليوم الأول من انعقاد طاولة ساحة النجمة. كان على كل واحد منهم أن يعرّف عن نفسه: أنا زعيم الطائفة الفلانية أخص الدولة الأجنبية الفلانية. ثم يبدأ الحوار على الشكل التالي <نحن مصالحنا وأمانينا في صف سوريا>. <نحن مصالحنا وأمانينا في صف أميركا>. لا بأس، ثمة قرى سكنها وتنازع عائلاتها شيوعيون وقوميون سوريون. ثمة قرى سكنها أمليون وحزب اللهيون. غالباً ما تقاتلوا. وفي النهاية كان عليهم أن يتعايشوا. هكذا الأمر على المستوى اللبناني العام. ثمة جماعة سوريا أو إيران. وثمة في المقابل جماعة أميركا في أقل تعريف. الاشكالية تصبح حينها، كي ننظم علاقتنا بعضنا ببعض عندما تشتد الأزمة بين الدول التي نواليها، فنوفق بين مترتباتنا <التبعية> لهذه الدولة أو تلك، وبين لزوميات عيشنا معاً.

كان حرياً أن يتقدم الطلاب الى تبني المسلك نفسه في الجامعات: قادتنا يتقاتلون ونحن نوالي قادتنا. لكن لا بأس لو لم نأخذ كل شيء بجدية. لكن في الجامعات حدث العكس. على طاولة الحوار أو في الوقت المستقطع الذي بات في لبنان هو كل الوقت، يحدث تحديداً العكس. تقويم هذا الاختلال يكون بجملة واحدة: نحن جماعة أميركا، وأنتم جماعة سوريا، أو العكس، وليكن تعايش بيننا على هذا الأساس.