اذا كانت بداية الانفراج في العلاقات اللبنانية – السورية تتمثل بزيارة يقوم بها ذات يوم رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة لدمشق، فان مثل هذا الانفراج لا يبدو قريباً، اقله في المدى المنظور، وليس في الأفق ما يشير الى خطوة ما في هذا الاتجاه، بل على العكس فان الامور تبدو هذه الأيام أكثر تعقيداً وقد عادت الى النقطة الصفر اثر تطورات بدأت بالزيارة التي قام بها للعاصمة السورية رئيس مجلس النواب نبيه بري، وأعقبتها تسريبات أوحت ان ثمة "خطوة ما" يمكن ان تحقق بعض الانفراج. وكان الاتصال الذي أجراه بري بعد عودته من العاصمة السورية بالسنيورة الذي كان في لندن في زيارة رسمية، إشارة الى انه يحمل جديداً.

فماذا حصل؟ وكيف تبدلت الاجواء الايجابية وانقلبت مزيداً من التعقيد؟

كانت زيارة بري المفاجئة لدمشق نهار الاحد 7 أيار الجاري. اتفق مع السنيورة هاتفياً على اللقاء بعد عودة الاخير من العاصمة البريطانية. ولما عاد التقى بري بعد أيام انشغل خلالها بسلسلة تطورات كان أبرزها التظاهرة النقابية في 10 أيار. وتخلل اللقاء غداء في مقر اقامة رئيس المجلس وكان ذلك في 15 أيار. وقد أطلعه بري على حصيلة زيارته لدمشق، وابرز ما فيها ان "الجماعة في انتظارك نهار الاربعاء المقبل" 18 أيار (موعد انعقاد جلسة مجلس الأمن التي صدر اثرها القرار رقم 1680) وذلك في زيارة غير مشروطة بجدول أعمال مسبق "تتفق عليه الحكومة اللبنانية" ويتخللها بالطبع لقاء بالرئيس بشار الأسد. أبدى السنيورة ارتياحه الى الاجواء الايجابية التي حملها بري من دمشق وقال له انه بين جلسة مجلس الوزراء التي ستعقد الخميس (اليوم التالي للموعد 19 أيار) والتحضير لزيارته المقررة لشرم الشيخ ولجدول اعمال اللقاء بالرئيس المصري حسني مبارك نهار الاحد (22 أيار) وارتباطات اخرى مقررة سابقاً، فانه يرى ان من المستحسن ان تكون الزيارة بعد أيام وفي مدة أقصاها مطلع الاسبوع المقبل وقال لبري: "خير ان شاء الله. أنا جاهز للتوجه الى دمشق صباح الاثنين". وبدا واضحاً على الفور ان موقف السنيورة اثار غضب دمشق، وقد ترجم هذا الغضب تصعيداً للحملة عليه من مسؤولين سوريين وجهات محددة في بيروت تعكس موقف دمشق. وقد بلغت الحملة ذروتها في المقال الذي نشر في صحيفة "الحياة" الاسبوع الماضي لسفير سوريا في واشنطن عماد مصطفى وحمّل فيه السنيورة مسؤولية صدور القرار 1680 وقد تضمن فقرة تتوجه مباشرة الى سوريا وفيها ان مجلس الأمن "يشجع الحكومة السورية بقوة على التجاوب مع مطلب الحكومة اللبنانية الداعي، تماشياً مع الاتفاقات التي جرى التوصل اليها في الحوار الوطني اللبناني، الى تحديد الحدود المشتركة بين البلدين ولا سيما في المناطق ذات الحدود الملتبسة او المتنازع عليها، والى اقامة علاقات ديبلوماسية كاملة وتمثيل ديبلوماسي كامل بين البلدين، مع الاشارة الى ان من شأن هذه الاجراءات ان تشكل خطوة مهمة نحو تأكيد سيادة لبنان وسلامته الاقليمية واستقلاله السياسي، وتحسين العلاقات بين البلدين، مما يقدم مساهمة ايجابية للاستقرار في المنطقة، ويحض الطرفين على بذل جهود من خلال مزيد من الحوار الثنائي من اجل تحقيق هذه الغاية، آخذين في الاعتبار ان اقامة علاقات ديبلوماسية بين الدول وانشاء بعثات ديبلوماسية دائمة يتمّان من خلال الموافقة المتبادلة".

وسط هذه الأجواء كان طبيعياً السؤال: هل ان موعد الزيارة جاء مصادفة بالتزامن مع موعد انعقاد مجلس الأمن؟ وهل ان اقتراح السنيورة الاثنين بدل الاربعاء هو ما دفع دمشق الى تحميل السنيورة مسؤولية صدور قرار مجلس الأمن؟ هل ان القرار 1680 ما كان ليصدر لو ان السنيورة زار دمشق؟

ثمة في لبنان من اعتبر التوقيت متعمدا بهدف توجيه رسالة الى مجلس الامن مفادها ان هناك اتصالات مباشرة بين لبنان وسوريا لمعالجة كل المشاكل والتعقيدات بينهما ولا حاجة الى قرار عن مجلس الامن في هذا الصدد. في المقابل كان في الانباء الواردة من دمشق حديث عن اتهامات للسنيورة بالمماطلة بايعاز من "الاكثرية الحاكمة" لكي لا تؤثر الزيارة على اجواء مجلس الامن وتحول دون صدور القرار الذي "شجع" الحكومة السورية على التجاوب مع مطلب الحكومة اللبنانية تحديد الحدود المشتركة وتبادل التمثيل الديبلوماسي.

"ما أصابك ما كان ليخطئك"

هذه الاتهامات ضد السنيورة والحملة المتصاعدة عليه والتي حملته مسؤولية صدور القرار 1680 تأخذها الاوساط الحكومية اللبنانية على محمل الجد وتعتبرها "تهديدا مباشرا" له. ومن هذه الاوساط من يذهب بعيداً اذ يقول صراحة ان اتهام رئيس مجلس الوزراء وتحميله مسؤولية صدور القرار1680 "انما هو تهديد وأكثر"! وينقل هؤلاء عن السنيورة تعليقاً مختصرا ورد في حديث شريف هو "ما أصابك ما كان ليخطئك، وما اخطأك ما كان ليصيبك". واذ يكرر انه يرغب باخلاص في زيارة دمشق مع التشديد في الوقت نفسه على انه "لا يستجدي" هذه الزيارة او غيرها، فانه لا يخفي "انتباهه جيدا" الى الاتهامات التي تساق ضده والحملات المبرمجة التي يتعرض لها، ولا يرى مبالغة في اعتبار بعضها (مقال السفير السوري في واشنطن) تهديداً مباشرا.

وهو يكرر انه مرتاح الضمير وأن ما يعبر عنه حول العلاقة اللبنانية – السورية ما هو الا ابسط ما يمكن ان يكون بين دولتين جارتين شقيقتين تسعيان الى علاقات اخوية متوازنة ثابتة ومستقرة. وهو على كل حال يبدو مدركا حجم كرة النار التي أمسك بها منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري ويعمل وفق ما يمليه عليه ضميره والمصلحة العليا للبلاد وهو الملم بالشعر ينام "ملء جفونه عن شواردها".

وكان لافتا انه في لحظة تأمل وبعد تطورات متسارعة في نهار طويل، كان يسأل عن مضمون عمل معبّر للفنانين زياد الرحباني وجوزف صقر يعود الى اكثر من عشرين عاما يخاطب فيه مواطنا داعيا اياه الى النوم لعله يحلم ان "بلدنا صارت بلد" ثم يستوضح عن عبارة وردت في العمل اياه وفيها تساؤلات اذا كان بلدا ام لا، ام مجموعة "عالم مجموعين ام مفروطين بل مقسومين" كما هو حاصل اليوم...

كان ذلك مساء الاحد الماضي بعد نهار حافل بالاتصالات اثر تطورات في الجنوب والبقاع تمثلت في اعتداءات اسرائيلية تلت انطلاق صواريخ "مجهولة الهوية" والمصدر وبدا واضحا ان السنيورة "ذواقة الفن" اراد التعبير على طريقته عن مرارة الانقسام الحاصل وتداعياته!