أيهما أهم للسوري....سورية أم لبنان؟!.....

قد يكون العنوان الرئيسي السابق مستفزاً حقاً، لكن ما أثار استفزازي أكثر هو نصوص ذلك الإعلان الذي بات يسمى "إعلان دمشق بيروت"،....لماذا أثار هذا الإعلان استفزازي؟....

الجواب يكمن في أن رموزاً هامة حقاً من نخبة المثقفين في سورية قد وقعت على الإعلان المذكور، بل أن بعضها قد ساهم في صياغته، الطيب تيزيني، برهان غليون، سهير الأتاسي، ياسين الحاج صالح، هيثم مناع، ميشيل كيلو، حكم البابا،...وأسماء أخرى كثيرة تضيق المساحة لإيرادها، كما يضيق القلب لتقبل ما ساهمت في إنجازه، فهي رموز ثمينة نكن للكثير منها الاحترام، وبغض النظر إن كنا قد اتفقنا سابقاً مع ما كانت تطرحه تلك الأسماء، أو لم نتفق، إلا أنها أثارت احترامنا، وهو ما جعلنا نشعر بالاستفزاز يوم قراءتنا بنود "إعلان دمشق – بيروت"، فحينما قرأته شعرت وكأنني أقرأ نصاً منمقاً ومدروساً، لكنه مكتظاً بالألغام والرسائل الخبيثة، أعده شخص ينضح بالخبث،.....ألغام تكمن بين السطور، ورسائل خبيثة وماكرة تنضح بها الكلمات، والأخطر من كل ذلك أن صوت فريق لبناني معين، تنضح به كلمات وتعابير الإعلان، حتى أنني شعرت بالغربة وأنا أقرأ الإعلان وكأنني أسمع خطاباً لوليد جنبلاط، أو مداخلة لمروان حمادة.......

هل يمكن أن أكون مخطئاً؟، ربما، هل يمكن أن أكون متجنياً؟، محتمل، لكنني كسوري لم أشعر بأي شيء يكرِّمني في هذا الإعلان، بل شعرت بأن معظم ما فيه يسيء إلي، وبقوة، وكأنني أجلس قبالة أحد عتاة قوى 14 آذار ليكيل لي، قبل نظامي، الشتائم المبطنة، والإهانات المستترة......

أعود لأكرر أنني لم أكن لأكتب هذا المقال إلا لأن نصوص الإعلان المذكور قد استفزتني، فحينما قرأت بيان جبهة الخلاص الوطني، يوم ائتلف البيانوني مع خدام، مع رموز سورية أمريكية مستترة، لم يستفزني بيانهم، بل سخرت منه، ويوم كنت أشاهد مداخلة تلفزيونية للمدعو "فريد الغادري" كنت ألعن البطن السوري الذي أنجبه، لكن ببرود، لأنني كنت أعلم بأنه بطن سوري عاق، لا يمثل ضمير الشعب السوري حقيقةً.......

أما أن أقرأ أسماء عدد من كبار كتابنا ومثقفينا، وبعض المعارضين للنظام من أولئك الذين كانوا يحظون باحترامنا، وأحياناً كانوا يصيبون بسهام كلماتهم مواقع من قلوبنا، أن نقرأ أسماء هؤلاء تذيل بتواقيعها إعلاناً يغص بالألغام والإساءات والرسائل الخبيثة التي تمس الشارع السوري قبل أن تمس نظامه، فهذا ما كسر في قلبي كسراً يصعب إصلاحه......

والحقيقة أنه ربما يكون أخطر ما يتضمنه الإعلان هو تلك الصياغة والمفردات المستخدمة، والتي لا توحي بالحيادية، بل تتبنى وجهة نظر فريق من القوى السياسية اللبنانية المعادية لسورية (قوى 14 آذار وتحالف جنبلاط – الحريري)، كما أن تلك الصياغة لم تراعي البتة، احتمال استغلالها من جانب قوى خارجية (أمريكا) للتدليل على صحة اتهاماتها الموجهة لسورية، وخاصة أن تلك الاتهامات ذاتها ترد بصورة مباشرة في بعض نصوص الإعلان، كما أن الإعلان لا يشير إلى واقع الضغوط الأمريكية على سورية ويتناساها تماماً، ويتجنب ذكر العامل الإسرائيلي إلا بإشارات خجولة فقط.....

وبعد أن بينت مشاعري تجاه نص الإعلان وتجاه بعض موقعيه من السوريين، سأحاول أن أتخذ منحناً موضوعياً بحتاً في مناقشة نصوص وتعابير النص بحرفيته، فأنا لا أريد التجني أو الافتراء خدمة لطرف، أو نفاقاً لجانب، لكنني أريد أن أقول كلمتي كمواطن سوري أولاً: كيف وقع رموز نخبتنا هذا الإعلان المريب؟......

لكن وقبل أن أبدأ، علي أن أؤكد على قضية، وهي أنني أعارض دون شك، النهج الذي اتبعه النظام في سورية في التعامل مع هكذا رموز، ورغم أنني أتفهم أن هذه الاعتقالات كانت رسالة تحذير من جانب النظام يقول فيها للمعارضين بأنني لن أسمح بمس المحرمات والخروج عن الإجماع السوري، إلى جانب كونها رسالة للخارج اللبناني من جهة، والأجنبي من جهة أخرى، يقول فيها النظام أنني مازلت أطبق بقبضتي الحديدية على زمام الأمور في بلادي، ولن أسمح لأحد بأن يهز استقراري من الداخل تنفيذاً لأجنداته المستهدفة، أو تصفية لحساباته معي،.....رغم تفهمي لرسائل النظام تلك، وحاجته لإرسالها، إلا أنني لا أوافقه على سياسة الاعتقال تلك، وأذكره بأهمية أن يكون رب البيت متسامحاً مع أهل بيته في الداخل، متشدداً ومستنفراً حيال أعداءه في الخارج، وليس العكس.......

والآن أترك القارئ مع هذه القراءة لمضامين "إعلان دمشق بيروت"، تاركاً له الحكم في تقييم ما سيأتي:
".....وقد جاء تدخل النظام السوري في الحروب اللبنانية (1975 ـ 1990) والوصاية التي مارسها على لبنان فترة ما بعد الحرب، وتحكُّمه الأمني بقرار لبنان السياسي والاقتصادي، لتزيد تلك المشكلات حدَّةً وتعقيداً....."

تخلو الصياغة السابقة تماماً من الحيادية، وتنقصها الموضوعية والمراجعة التاريخية العادلة، فتجسد وجهة نظر فريق من اللبنانيين، دون أن تتناول وجهة نظر فرق أخرى منهم، وتذكر سلبيات التدخل السوري في لبنان بينما تتناسى إيجابياته ونتائجه القيِّمة على لبنان، ومن ذلك إنهاء الحرب الأهلية الدامية، ونزع سلاح الميلشيات اللبنانية المتقاتلة، والتي أقضت مضجع السلم الأهلي اللبناني لخمسة عشر عاماً، وقد بذلت سورية في سبيل ذلك عشرات الآلاف من الشهداء.....كما نسي معدو الإعلان دور سورية في إنشاء جيش لبناني وطني يخلو من المشاحنات الطائفية قدر المستطاع، وهو ما تتجلى نتائجه الإيجابية اليوم عبر حيادية الجيش حتى الآن، وابتعاده عن أي انزلاق في الصراع السياسي الدائر على الأرض اللبنانية حالياً، كما ساهم الوجود السوري في ترسيخ قيم ما يعتبره معظم اللبنانيين حتى اليوم، ومنهم أولئك المعادين لسورية، دستوراً لبنانياً، ونقصد هنا اتفاق الطائف، كما تجاهل الإعلان دور سورية في تحرير الجنوب اللبناني، وفي دعم المقاومة اللبنانية التي يفتخر بها فريق واسع من اللبنانيين اليوم، ويعتزون بأن أول هزيمة إسرائيلية على يد العرب تمت في لبنان.

ويحضرني هنا دفاع الكاتب السوري حسين العودات عن نص الإعلان، حينما قال في مقال له بعنوان " اعتقال الرأي الآخر" في السفير (20/5)، أنه "لم يكن من مهمات البيان – الإعلان- استعراض تاريخ العلاقات بين سوريا ولبنان، والإشارة إلى الأخطاء التي ارتكبت، وتحديد المسؤولية، وتقويم المراحل السابقة البعيدة والقريبة....."، فأوجه السؤال التالي إلى الكاتب: هل كان من مهمات البيان – الإعلان- أن يتناول تلك الحقبة تحديداً من تاريخ العلاقات بين البلدين، وفق تلك الصياغة تحديداً، والتي أشعرتني وكأن الجانب السوري هو من أشعل الحرب الأهلية في لبنان، وليس هو من أطفئها،، متناسين ما نعم به لبنان من استقرار وأمن ودعم للمقاومة، بفضل السوريين، أم أن هذا الجانب ليس مثيراً للاهتمام من جانب معدي الإعلان، بينما تلك الممارسات السورية السلبية التي أُرهقت مسامعنا من تردادها على لسان أقطاب 14 آذار هي وحدها الجديرة بالذكر في تاريخ العلاقات بين البلدين، مع العلم أننا نقر بوقوعها.

".....في هذا الصدد، يطالب المشاركون السوريون بضرورة الاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان ومغادرة كل تحفظ ومواربة في هذا المجال. ويعلن المشاركون السوريون واللبنانيون معاً تمسُّكهم الحازم بمنع أن يكون لبنان أو سورية مقراً أو ممراً للتآمر على البلد الجار والشقيق أو على أي بلد عربي آخر. وإننا معاً نرى أن الخطوات الأولى في هذا الاتجاه تتمثَّل بترسيم الحدود نهائياً والتبادل الدبلوماسي بين البلدين....."

تتناقض الصياغة السابقة مع ما ورد في مقدمة الإعلان والذي أعرب فيه معدوه عن رغبتهم في تصحيح العلاقات بين الشعبين بما يحقق تصحيحاً جذرياً يلبِّي المصالح والتطلعات المشتركة للشعبين في السيادة والحرية والكرامة....، فالفكرة السابقة تتوافق مع وجهة نظر فريق من اللبنانيين، دون فرق لبنانية أخرى، ورغم أن فريق 14 آذار يدَّعي أن مطلبي ترسيم الحدود وتبادل التمثيل الدبلوماسي (هما أيضاً مطلبي مجلس الأمن الدولي بعد القرار 1680) يتوافقان مع مقررات مؤتمر الحوار اللبناني إلا أن جانباً واسعاً من القوى السياسية في لبنان كما هو واضح في التصريحات والنشاطات اليومية، لا يبدي حماسة حقيقة لفكرة تبادل السفارات، مما يعني أن هذا الإعلان يتبنى وجهة نظر فريق من اللبنانيين، وهذا ما لا يحقق فعلياً مصالح الشعبين وخاصة أن أحداً من الموقعين لم يستشر الشعبين حقاً إن كانا يفضلان انتظام العلاقات بين مجتمعيهما، في إطار تقنين يماثل ما هو قائم بين معظم دول العالم، أم أنهما يفضلان تحرر تلك العلاقات من أي معوقات، كما هو قائم حالياً، من خلال الانتقال الحر عبر الحدود، ومظاهر التداخل الأسري والاقتصادي والحدودي القائمة حالياً.

"...... ثانياً: نعلن تمسكنا بحق سورية في استعادة كامل أراضيها المحتلة في الجولان واستعادة لبنان أرضه التي لا تزال محتلَّة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بكافة الوسائل المتاحة بعد الإعلان الرسمي السوري عن لبنانيتها تحت مظلة الشرعية الدولية،......"

تتمثل خطورة الفكرة السابقة في أنها تتمسك بحق سورية ولبنان في تحرير أراضيهما المحتلة، تحت مظلة الشرعية الدولية، والتي أصدرت قرارات تقضي بنزع سلاح المقاومة، مما يعني أن الشرعية الدولية ترفض استخدام القوة في تحرير الأراضي المحتلة، وبالتالي يجب على من يريد أن يحرر أرضه المحتلة سواء في سورية أو في لبنان، التقيد بما تمليه الشرعية الدولية واللجوء إلى الأساليب السلمية والتفاوضية، والتي لمن ترجع حتى اليوم شبراً من تلك الأراضي المحتلة، وهذا البعد خطر للغاية إذ أن التقيد بالشرعية الدولية في إطار تحرير الأرض، مع العلم بأن هذه الشرعية (ويقصد بها القرارات الدولية) هي منحازة بالكامل لإسرائيل، يعني فقدان الأمل بتحرير تلك الأراضي حقيقةً، ولا نعلم إن كان معدو الإعلان قد أوردوا تلك العبارة عن وعي بأبعادها، أم عن جهل، وخاصة منهم السوريين.

"......خامساً: ندعو الى إرساء العلاقات الاقتصادية بين البلدين على الشفافية والعلانية والتكامل بما يراعي المصالح الشعبية لا جشع حفنة من المتحكِّمين بالاقتصاد والسلطة. على أن هذا يستلزم، أول ما يستلزم، تحرير اقتصاد البلدين من النهب المنظَّم الذي كانت تمارسه، وما تزال، مافيات مشتركة لثروة البلدين ومواردهما مستفيدة من مواقع حماية وانتفاع في سلطة البلدين....."

تتفق الفقرة السابقة تماماً مع الخطاب الإعلامي والسياسي لقوى 14 آذار، متناسية وجهة نظر فريق آخر من اللبنانيين، فميشيل عون مثلاً، نادى بفتح ملفات الفساد، ومحاسبة الفاسدين منذ العام 1991، وحتى خروج الجيش السوري، مما دفع جنبلاط والحريري إلى أخذ مسافة معادية تجاهه، وخاصة بعد أن طالب عون علناً، بمحاسبة جميع من تعاون مع السوريين في تلك الحقبة واستفاد منهم، وهو ما ينطبق تماماً على كل من الحريري الأب ووليد جنبلاط، ودعوة عون هذه كانت السبب الدقيق لحالة الافتراق القائمة حالياً بين جنبلاط خاصة وبين عون، فالأول يعارض وصول عون إلى رئاسة الجمهورية خشية فتح ملفات فساد تربطه بالوجود السوري في لبنان سابقاً، وهو ما ينطبق أيضاً على الحريري الأب الذي اتضح مؤخراً بأن ثروته قد ارتفعت من 3 مليار دولار في العام 1998، إلى 16 مليار دولار عام 2005، قبيل وفاته، مما يعني أن ثروته تضاعفت أكثر من خمس مرات خلال فترة وجوده في رئاسة الوزراء اللبنانية.

"......سادساً: ندين الاغتيال السياسي بما هو وسيلة جرمية للتعامل مع المعارضين وحل النزاعات السياسية، ونشدِّد على ضرورة تسهيل مهمة لجنة التحقيق الدولية من أجل كشف المحرِّضين والمنظِّمين والمنفِّذين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وفي الجرائم الأخرى وتحميلهم المسؤولية الجزائية والسياسية على جرائمهم وإنزال العقوبات التي يستحقونها أمام القضاء الدولي والرأي العام. ونرفض، في مطلق الأحوال، أي محاولة لفرض العقوبات الاقتصادية وسواها على الشعب السوري......"

توجه الصياغة السابقة اتهاماً شبه مباشر لسورية باالمسؤولية عن سلسلة الاغتيالات التي عاشها لبنان بدءاً باغتيال الحريري، وخاصة حينما قرأ الإعلان تلك لاغتيالات على أنها كانت وسيلة للتعامل مع المعارضين وحل النزاعات السياسية، مما ينفي أي شبهة عن تورط إسرائيل أو أية جهة أخرى غير سورية في اغتيال الحريري.

ويجب الإشارة ختاماً إلى أنه رغم النقاط المحسوبة للمعارضة السورية والواضحة في بعض فقرات الإعلان، كما في الفقرة الرابعة والتي تتحدث عن الحقوق والحريات العامة وعن المسار الديمقراطي، إلا أن الخطاب السياسي والإعلامي لقوى 14 آذار يطغى بصورة واضحة على معظم فقرات الإعلان الأمر الذي يسيء إلى المثقفين السوريين الذين وقعوا على الإعلان، ويظهرهم وكأنهم يقفون مع خصوم سورية، بصورة لم تتجاهل فقط حساسية النظام السوري تجاه هذا الفريق من اللبنانيين، بل وتتجاهل أيضاً وبصورة وقحة أحياناً، مشاعر السوريين أنفسهم كشعب، والذي لا يكن – حسب اعتقادنا- أي احترام لقوى 14 آذار ولرموزها.

ويبقى أن نتساءل أخيراً: أين كان الموقعون السوريون على الإعلان من النقاط السابقة؟، هل خدعوا وهم أرباب فكر وثقافة وصحافة، أم أنهم قرروا استفزاز النظام فقط، ولمجرد الاستفزاز، متجاهلين احتمالية استغلال العدو المترصد لتلك اللحظة، وكم كان خاطر سوء، يوم قرأت الإعلان، فشعرت بأنه من الممكن أن يكون في المستقبل مقدمة لقرار دولي جديد ضد سورية، يسعى إلى تحرير الشعب السوري من الاستبداد والقمع، على الطريقة الأمريكية المطبقة في العراق، وبالاستناد إلى مطالب النخبة المثقفة السورية، كما استند مجلس الأمن الدولي إلى مطالب فؤاد السنيورة ليصدر قراراً دولياً جديداً يزيد الضغوط على سورية، ونتساءل هنا: هل نسي الموقعون السوريون على الإعلان كم يمكن للشعب السوري أن يتضرر من ازدياد الضغط على نظام الحكم في بلاده، أم أن إزالة هذا النظام باتت هماً وحيداً أنساهم كل المخاطر الكارثية التي قد يحملها هذا الهم إن تحقق، والذي سيدفع الشعب السوري تحديداً الثمن الأعظم منها، ويبقى أن نسأل مثقفينا: أين سورية من الإعلان الذي أعددتموه فقد أحسست أنكم تهتمون باللبنانيين أكثر من اهتمامكم بالسوريين، وتسألون أهالي دمشق أن يبادلونكم الاهتمام بجيرانهم في بيروت، بعد أن باتت الأخيرة بلاء سورية الأكبر؟!....