لحظة أعلن الرئيس السوري بشار الأسد في 5 مارس (آذار) 2005 قرار انسحاب قواته من لبنان هاجت جماهير ساحة الحرية في وسط بيروت وماجت وتعالت هتافات النصر من حناجر شباب «ثورة الأرز». إلا أن حنجرة الكاتب والصحافي سمير قصير طغت آنذاك على فرح الجماهير لتعلن أن معركة الاستقلال لم تنجز. قال لهم: «اقترب تحرير لبنان ولكننا ما زلنا في بداية الطريق. والخطر على مسيرة الاستقلال ما زال قائما». سمير قصير كان آنذاك يقرأ في كتاب خاص به، كان يعتبر أن ما حصل لا يتجاوز مرحلة التأسيس وليس القطاف، وأن فك الارتباط بين ما سبق اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وما تلاه من تداعيات لا يتم بكبسة زر ولا يعني بالضرورة جهوزية لبنان لاستعادة قراره وسيادته على أرضه بعد أعوام الوصاية وتحكم النظام الأمني المخابراتي بمفاصل الحياة السياسية والاقتصادية. وقد تجسدت الترجمة لمخاوفه في استهداف حياته في الثاني من يونيو (حزيران) 2005 بعبوة زرعت في سيارته.

اليوم تحل الذكرى الأولى لاغتيال سمير قصير. وهي تعيدنا إلى قراءة سلسلة الاغتيالات التي اختارت تباعا كلا من النائب مروان حمادة والرئيس رفيق الحريري والوزير باسل فليحان وجورج حاوي والوزير الياس المر والاعلامية مي شدياق، لتتوقف عند النائب جبران تويني. حمادة والمر وشدياق نجوا من الموت. ولكن هل نجا لبنان من هدف هذه الاغتيالات؟ هل استثمرها لمرحلة تأسيس جديدة؟ فلنعكس السؤال: هل نجحت هذه الاغتيالات في قطع الطريق على مشروع كان مقررا أن يأخذ البلاد إلى بر الأمان؟

الجواب يولد التباسا مفتوحا على احتمالات معقدة. لبنان أضحى بعيدا عن انتفاضة 14 آذار. كأنها كانت حلما تم إجهاضه. فالواقع الراهن لا علاقة تربطه بالمرحلة الواعدة التي تشكلت غداة جريمة اغتيال الحريري، داخليا وعالميا، وأثمرت مشهد وحدة وطنية قلما عرفها اللبنانيون واهتماما دوليا ادخل الحالة اللبنانية غرفة العناية الفائقة في أجندة مجلس الأمن والعواصم الكبرى. كانت المطالب والأهداف واضحة ونظيفة لا تحتمل جدالا يصل حد الصراع والتخوين والفرز. ولكن الفرحة لم تكتمل. التطورات الإقليمية غيّرت الخريطة، بعثرتها إذا صح التعبير. فوز محمود احمدي نجاد في إيران وحركة حماس في فلسطين وتفاقم الوضع في العراق، عوامل انعكست قوة على أوراق الأوفياء للأجندة الإيرانية ـ السورية ورافضي القرارات الدولية على اعتبار أنها مطلب أميركي وإسرائيلي. في المقابل واصل فريق الأكثرية المناهض للأجندة الإيرانية ـ السورية تخبطه. واظهر «ركاكة» في الإمساك بأوراقه القوية وارتكب سلسلة أخطاء في الأداء، ربما تحت وطأة الضغط المتزايد، لكنه ارتكبها، ليسارع النظام الذي يحرك فريق الأوفياء إلى استثمارها بغية تصوير المعركة في لبنان وكأنها صراع داخلي تتقاطع فيه مصالح القوى السياسية، أو كأنها معبر إلى استعادة ملفات وقضايا كانت المواقف منها قد صنفت مسلمات، لا لزوم لبحثها، لكنها تعود اليوم وتخضع إلى تأويلات متناقضة. وجهات النظر التي تتداول النقاش فيها تكاد تتحول صفقة مقاولات سياسية تبيع وتشتري على حساب البلد، حتى عندما تطرح على طاولة الحوار الوطني.

على ما يبدو لن تقدم هذه الطاولة أو تؤخر شيئا في مآل خطة قطع الطريق على مشروع قيادة البلاد إلى بر الأمان. ففي مسألة تحديد (أو ترسيم) الحدود مع سورية والتبادل الدبلوماسي بين البلدين بدأت تفوح رائحة طبخة البحص. وفي قضية رئاسة الجمهورية أسفر الاختلاف في الرأي عن سحبها من التداول. وفي ملف السلاح الفلسطيني خارج المخيمات توحي حملات التصعيد المتسارعة أننا عدنا إلى مرحلة ما قبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. فالسلاح الفلسطيني المعتقل منذ الاجتياح بأياد لبنانية وأوامر سورية خرج وباشر ارتكاباته حوادث قتل «عابرة وفردية». وها هو اليوم يصبح اكثر من أولوية. هو واجب وحق لدى المقاومة التي لن تتخلى عن أي فرصة لدعم الشعب الفلسطيني المظلوم من أجل أن ينتصر على أعدائه الصهاينة. وبالطبع تأدية هذا الواجب ستنجزها أياد لبنانية بأوامر سورية. وحكومة فؤاد السنيورة لا تملك أن تتخذ موقفا حازما تجاه هذا الوضع.

أما في خصوص البند الأول من برنامج طاولة الحوار والمتعلق بالتحقيق في جريمة اغتيال الحريري ومعرفة الحقيقة، فالإجماع قد لا يحول دون الانقضاض على ما قد يورده المحقق البلجيكي سيرج براميرتز في تقريره المتوقع صدوره في 15 يونيو (حزيران) الحالي. وربما لن تحول السرية التي اعتمدها براميرتز دون المواجهة. فالتجارب السابقة لا تشير إلى إمكانية التعامل مع نتائج التحقيق والمحكمة الدولية بروح رياضية إذا أدانت النظام في سورية والأجهزة التي كانت تأتمر بأوامره في لبنان.

المعركة الحالية لا تعدو كونها تسخينا تمهيديا لتسفيه هذه النتائج وإلحاقها بالمخطط الأميركي ـ الإسرائيلي. وبالطبع يقابل التسخين انتظار سلبي من قبل الأكثرية التي تراهن على نتائج التحقيق بشكل أساسي لتعيد ترتيب أوراقها وتمسك دفة البلاد من جديد وتطرح شروطها. ولكن هناك من يبشر بأن الوضع تجاوز الاتهامات المحتملة للنظام السوري في التخطيط والتنفيذ والتسهيل والعمل جار لتصنيفها تفصيلا تافها لا يجوز أن يعرقل مسيرة التحرير الكبرى التي لن تعلن استقالتها من النضال قبل تحرير القدس. ومسلسل الاغتيالات السالف الذكر استهدف أسماء بعينها لمعرفته أن غيابها يقضي على صمام الأمان ويضعف جبهة الممانعة الداخلية للعودة بالبلاد إلى فوضى الصراع مع تكريس التجاذب في الساحة الداخلية إلى درجة الانقسام والشرخ والتحضير للحرب الأهلية مهما كانت العناوين والشعارات المرفوعة.