"عودوا الى الشارع أيها الرفاق، تعودوا الى الوضوح".
سمير قصير ("النهار" 15/4/2005)

يوما بعد يوم تتأكد صعوبة فصل المشهد اللبناني عن المشهد الاقليمي، بل وعن المشهد الدولي أحيانا.

فمن اغتيال المسؤولَين في "الجهاد الاسلامي" في صيدا، الى اطلاق صواريخ "غامضة" على الاراضي الفلسطينية المحتلة، فالى مذكرات الجلب السورية في حق رئيس "اللقاء الديموقراطي" وليد جنبلاط، مرورا بما يجري في غزة والضفة الغربية من عمليات اسرائيلية ضد المجاهدين الفلسطينيين والضحايا البريئة التي تسقط تحت وابل الصواريخ الاسرائيلية، صعودا الى المفاوضات الجارية بين ايران والاتحاد الاوروبي في شأن البرنامج النووي الايراني والتي ترافقها تهديدات اسرائيلية بضرب المنشآت الايرانية، والرغبة الاميركية في المشاركة في المفاوضات وانعكاس ذلك على المتعاطفين مع ايران، لجهة حقها في ان تكون لها مساهمتها العلمية في المجال النووي سواء للأغراض السلمية من طريق صهر الذرة وتحويلها طاقة، او للأغراض العسكرية تحقيقا للتوازن مع اسرائيل التي يُعتقد ان لديها مخزونا من الرؤوس النووية يعد بالمئات، اضافة الى الشيعة المتعاطفين مع الجمهورية الاسلامية طائفيا ومذهبيا. وهو تعاطف ذو حساسية خاصة لا أحد ينكره او يستطيع أن يلغيه، في اوساط "حزب الله" كما لدى حركة "امل" ومجموعات كبيرة من الشيعة غير الملتزمين بهذين التنظيمين.

ويمتد هذا التعاطف من طهران الى بغداد فسوريا فلبنان فالكويت فالخليج العربي بكامله، وصولا الى أي مكان في العالم يقيم فيه شيعي تعيش كربلاء في قلبه وعقله، ولا تغيب صورة الامام علي والحسن والحسين عن ناظريه.

وهذا المشهد الايراني البارز، على خلفية اللوحات السورية واللبنانية والفلسطينية، يختصر ما يجري في الشرق الاوسط الأكبر من أمور تتعلق بأمن المنطقة الذي لا تريد الولايات المتحدة اشراك أي فريق عربي فيه، وتحصره بها وباسرائيل وتركيا وباكستان، وربما بايران اذا ما عادت الى "بيت الطاعة" وأوقفت برنامجها النووي، وعدلت سلوكها في العراق وفلسطين ولبنان، وعقلنت تحالفها مع سوريا.

وما كان يجب ان يُفاجأ أحد في لبنان بقضية سلاح "حزب الله" والسلاح الفلسطيني المنتشر خارج المخيمات، وكذلك تنظيمات تأتمر بسوريا داخل المخيمات وتعتبر مخزونا استراتيجيا لدمشق صرفت على رعايته وحمايته أكثر من ربع قرن منعت خلاله الدولة اللبنانية من دخول أي من المخيمات الفلسطينية، سواء لاعتقال مطلوبين، أو لابلاغهم مذكرات جلب. ويذكر اللبنانيون جيدا كيف مُنعت السلطات اللبنانية من دخول مخيم عين الحلوة لاعتقال "أبو محجن" المتهم بجرائم عدة، كما مُنعت من دخول هذا المخيم وسواه لتعقب المتهمين باغتيال القضاة الاربعة في صيدا.

لذلك يجب التروي والنظر الى ما يجري عندنا، في ضوء ما هو متحرك حولنا، متعظين من أمثولات الماضي بأن قوة اللبنانيين هي في وحدتهم. وقد تجلّت هذه الوحدة نسبيا، في عودة التضامن بين أفرقاء 14 آذار، وإن ليوم واحد، بوقوف "التيار الوطني الحر" بجانب الاكثرية في ادانة مذكرات الجلب السورية.

ولم يكن تنظيرا قولنا سابقا ان لبنان بات في عين الاعصار، وأنه يجب ان يعرف اين يضع رأسه، اذا كان لا يريد ان يخبّئه. ذلك بأن ديناميات الاحداث قد لا تمنحه فرصا للبحث عن مكان آمن لرأسه. والدليل على ذلك اتهام سوريا الرئيس فؤاد السنيورة بأنه وراء القرار 1680 مع أنه حرص على ابقاء الحكومة اللبنانية بعيدة عنه، وتمنى على لجنة الصياغة الدولية عدم الاشارة الى "حزب الله" والاكتفاء بتشجيع سوريا على ترسيم الحدود مع لبنان واقامة تبادل ديبلوماسي بين بيروت ودمشق.

ولقد أظهرت قمة الخرطوم أن سلاح المقاومة شأن اقليمي وليس مسألة داخلية لبنانية. وكلما "تطرفت" الاكثرية في تعاملها مع الاقلية، وخصوصا في المسائل المتصلة بالعلاقات مع سوريا، كلما تعقدت الامور وزادت الساحة اللبنانية إرباكا، على غرار ما حصل الاسبوع الماضي ووضع الحكومة امام تحد صارخ. اذ كيف لها ان تصر على نزع سلاح المقاومة ومعاملتها على أساس انها ميليشيا على النحو الذي ورد في القرار 1559، فيما الطائرات الاسرائيلية تغير على مواقع لـ"حزب الله" والمدفعية المعادية تعربد وتدك الاماكن السكنية في القرى المحررة، وليس من يدافع عنها سوى المقاومة، بعدما أبعدت السياسة الدفاعية الرسمية الجيش اللبناني عن الحدود.

كما تجد الحكومة نفسها عاجزة، لأسباب هي تعرفها، عن منع اللاجىء الفلسطيني من الرد على اغتيال مسؤولَين بارزين في تنظيم مقاوم، مكتفية بشعار ان الاحتلال الاسرائيلي هو مصدر كل المشاكل، ثم السعي الى ترتيب وقف لاطلاق النار خشية توسيع القصف المعادي الى البنى التحتية التي طالما استهدفتها الطائرات والصواريخ الاسرائيلية.

كان متوقعا ان ترفض ايران العرض الاميركي للمشاركة في المفاوضات معها، لان العرض المقبول هو مشاركة اميركا واسرائيل معا، نظرا الى ان القيود التي يحاول المجتمع الدولي فرضها على ايران بسبب اصرارها على تخصيب الأورانيوم في أراضيها، ستبقي اسرائيل مستثناة منها. فالامن في المنطقة، كما يتصوره الاميركيون، ليس مطلوباً من العرب، لأنه يستهدف حماية اسرائيل، ومنابع النفط وطرق امدادات الغرب منها، الى جانب حماية الانظمة الموالية لأميركا من الارهاب عموما. لذلك لا مكان للعرب في نظام تعتبر اسرائيل عموده الفقري. مع الاشارة الى ان حكم الشاه كان احد الاعمدة الكبيرة لهذا النظام، ومنذ اطاحته في كانون الثاني 1979 انهار النظام الامني الاقليمي، ولم تنجح محاولات احلال باكستان مكانه، وإن تكن واشنطن لا تزال تأمل في استعادة ايران الى هذا النظام.

وسبق لوزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس التي اقترحت مشاركة واشنطن، وإن مشروطة، في المفاوضات مع ايران، أن وضعت، في مقال نشرته في مجلة "فورين افيرز"، قبل دخول الرئيس جورج بوش الى البيت الابيض، تصوّرها للأمن القومي الاميركي في الخارج، معتبرة ايران وسوريا والعراق أهم ثلاثة أخطار تواجهها اسرائيل، ومعها الولايات المتحدة في المنطقة. وباحكامها قبضتها على العراق، يبقى أمام واشنطن تطويع طهران ودمشق.

لذلك يجب ان يدرك اللبنانيون حجم اللعبة الاقليمية، ويتنبهوا الى منزلقاتها، ويتفادوا الوقوع فيها، وخصوصا في وقت تجمع سوريا حلفاءها وأتباعها في لبنان بهدف تغيير موازين القوى. وهذا يستدعي من قوى 14 آذار، تقويما للمرحلة السابقة، والاعتراف بالأخطاء التي أتاحت لاتباع نظام الوصاية ان يطلوا برؤوسهم مجددا، آملين في الانقلاب على الحركة "الانفصالية" عن سوريا، واعادة عقارب الساعة الى الوراء، مستفيدين من التناقضات داخل الحركة الاستقلالية.

اذا كان اللبنانيون يرفضون عودة بلدهم ساحة، عليهم ألا يشاركوا في ألعاب الكبار، وأن يُدركوا أن الساحة لا تعود الا اذا شاء اللبنانيون ذلك، بتباعدهم، وتنابذهم.

فليُجمعوا الان على قانون الانتخاب، وعلى استقلال القضاء، كما أجمعوا على رفض مذكرات الجلب السورية.

وليكفوا عن النحيب لرفض سوريا استقبال الرئيس السنيورة، فضلا عن رفضها التمثيل الديبلوماسي وترسيم الحدود.

وليتعظوا بحركة 14 آذار التي فرضت ارادة شعب حرّ على العالم، اذا كانوا جادين حقا في بناء دولة حديثة.