ليس غريبا أن تخف كثيرا حدة الاتهامات الأميركية، وكذلك العراقية الرسمية ضد دمشق بعدم ضبطها لحدودها مع العراق، لا بل أن ثمة تصريحات من هنا وهناك، توقفت عند الجهود التي بذلتها الحكومة السورية لضبط حدودها ومنع المتسللين من دخول الاراضي العراقية, في هذا الصدد، فإن ما نسب من كلام للرئيس العراقي جلال الطالباني خلال لقائه مع مجموعة من الصحافيين العرب منذ أكثر من شهر، تم تصحيحه حين نفى مكتب الرئيس العراقي ما نقل عنه من اتهامات ضد دمشق بأنها «المصدر الرئيسي للإرهاب في العراق».

وحقا، فقد قامت دمشق في الأشهر الأخيرة بإلقاء القبض على آلاف من الإسلاميين الذين كانوا ينوون التسلل الى العراق، سواء أكانوا عربا ام سوريين، وقد سلمت السلطات الأمنية المحلية لبعض العواصم العربية الكثير من الرعايا الذين دخلوا الأراضي السورية بغية الوصول الى العراق، أما بالنسبة لمواطنيها، فهي ألقت القبض على المئات منهم، ومنذ أيام شهدت احدى المحاكم العسكرية في العاصمة محاكمة نحو 51 إسلاميا غالبيتهم كانوا من الذين ينوون الذهاب إلى العراق لأجل «الجهاد», إضافة الى هذه الجهود «الأمنية» قامت السلطات السورية باتخاذ إجراءات لوجستية صارمة من خلال بناء سواتر ترابية على طول الحدود وتوزيع الآلاف من جنود الهجانة، كذلك أنشأت المئات من مراكز المراقبة.

صحيح أن ثمة اختراقات تحصل بين الفينة والأخرى، لكن يجب أن نعلم أن غالبيتها تتعلق بتشابك المصالح بين أطراف متعددة من بينهم «مهربون» على ضفتي الحدود, فهؤلاء لا يتورعون عن تهريب أي شيء والمتاجرة بكل شيء من أجل الحصول على المال، كالنفط والسيارات و«المجاهدين» والسلع والنفط والاغنام وكل شيء يدر ربحا، وهؤلاء أيضا لن يجدوا صعوبة في اتباع أساليب الفساد وتقديم الرشى، وعلى جانبي الحدود أيضا من أجل إنجاح صفقاتهم.

بعموم الأحوال، فقد خفت كثيرا قنوات التهريب والتسلل المتعلقة بالسلاح وحاملي السلاح، لأسباب عدة من بينها، أن العراق ذاته وصل الى مرحلة، ومنذ زمن طويل، الى «الاكتفاء الذاتي»، اذ لم تعد ميليشيات «المقاومة» و«الإرهاب» تحتاج للعدة والعتاد، طالما اصبحت موجودة وبكثرة بين مختلف التيارات والفصائل العراقية السياسية ، والأهم من ذلك كله يجب أن نتوقف عند القرار الذي اتخدته الحكومة السورية بدعم العملية السياسية في العراق والإعلان المتكرر عن الاستعداد للقيام بفتح سفارة لها في بغداد بعد أن يفرغ العراقيون من تشكيل حكومة وطنية تكون منبثقة من انتخابات تمثل وتعكس الطيف السياسي والاجتماعي والطائفي كلها الموجود في العراق.

واليوم، تبدو العلاقة الثنائية تتجه إلى مزيد من الاستقرار بعد ثلاثة أعوام من التشنج والاتهامات المتبادلة، خصوصا وأن الجمعية الوطنية العراقية انبثقت من عملية انتخابات واسعة شارك فيها طيف واسع من العراقيين، وهي الخطوة التي قادت إلى الإعلان منذ أسابيع عن تشكيل الحكومة برئاسة نوري المالكي، الذي قضى اعواما طويلة في دمشق خلال حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين, ومعروف عن المالكي، أنه وخلال وجوده في دمشق،بقي على علاقة طيبة مع جميع المسؤولين السوريين، خاصة، وهو الذي وبخلاف الكثير ممن عاشوا في العاصمة السورية، بقي نظيف الكف واللسان ولم يسجل عليه أنه دخل بصفقات مالية أو تجارية أو سمسرة، كما أنه وفي أعقاب عودته الى العراق بعد الاحتلال الأميركي، لم يدل بأي مواقف أو تصريحات تنال من الدولة والحكومة التي استضافته، وهذا كان له أثر وقيمة عند المسؤولين السوريين.

وإذا ما أضفنا الرئيس جلال طالباني إلى «الضيوف-الزعماء» الذين حلوا على دمشق في اعوام البعد والإبعاد عن العراق، وهو الذي ما انفك يعبر عن شكره للحكومة السورية ومسؤوليها عن اهتمامها بالمعارضة العراقية إبان حكم صدام حسين، تكون الطرق قد مهدت أمام إحداث نقلة كبيرة في العلاقة الثنائية العراقية - السورية بعد نحو أكثر من عشرين عاما من القطيعة والشد والجذب والاتهامات المتبادلة, إضافة إلى هذا كله يجب أن نتذكر أن الكثير من المسؤولين العراقيين يشبهون في مسيرتهم السياسية مسيرة كل من المالكي والطالباني لناحية وجودهم في دمشق وعلاقتهم بالمسؤولين السوريين,

بالطبع، فإن ذلك كله يتزامن مع قرار سوري معلن بإرسال سفير الى العراق ريثما يتم تشكيل الحكومة العراقية.

في هذا السياق، لا بد من الوقوف عند بعض الملفات الإقليمية التي كان من شأنها، أن تساعد في تقريب المسافات بين بغداد ودمشق وإزالة «السواتر» التي كانت تحول بين تطبيع كامل وشامل للعلاقة، لعل في مقدمها الملفين الإيراني واللبناني, فكما هو معروف يحظى الموضوع العراقي وتطوراته بنصيب واسع من اهتمام طهران ودمشق اذ استحوذ على نصيب وافر من الاتصالات والمباحثات الثنائية خلال جميع اللقاءات التي كانت تحصل، صحيح أن خلافات في وجهات النظر كانت تفصل بين البلدين لناحية طرائق التعامل مع ما فرضه الاحتلال الأميركي من وقائع ومعادلات جديدة على الأرض، إلا أنهما وحسب ما أبدتا أخيرا، اتفقتا على التعامل بنظرة واقعية الى الوجود الأميركي والتنسيق فيما بينهما ليكونا أقرب وداخل ومع العراق وفرقائه المختلفين والمتنوعين من أن يبقيا بعيدتين، خصوصا بعد أن ثبت أن بقاء القوات الأميركية سيأخذ وقتا طويلا، وهذا سيبقى مرهونا لنجاح العملية السياسية وقدرة العراقيين على المسك بزمام أمورهم بأيديهم، سياسيا وأمنيا.

كذلك فقد ثبت أن دعم دمشق للعملية السياسية في العراق وتقديمها الجهود لأجل ضبط الحال الأمنية من خلال ضبطها لحدودها، سيخفف الكثير من الضغوط السياسية الأميركية عليها، خصوصا وأن الملف اللبناني ما زال يضيف، بتعقيداته اليومية، الكثير من «وجع الرأس» على سورية، ويسبب لها إحراجات كبيرة في علاقاتها العربية والاقليمية والدولية.

ويبدو أن الولايات المتحدة المنشغلة من أخمص أقدامها الى قمة رأسها بالملف النووي الإيراني، ستكون سعيدة لأي جهد إقليمي، من شأنه أن يخفف عنها الضغوط في العراق ويساعد في إنجاح العملية السياسية ودعم الحكومة العراقية الجديدة، هنا يحصل أن مصالح أميركية سورية التقت، مصادفة، عند منتصف الطريق، وما على دمشق وواشنطن الا حسن الانتباه والتقاط ما وفرته هذه «المصادفة» لا الرغبة المتبادلة في الاجتماع والتلاقي,

وأخيرا، لا بد من الاعتراف، أن طريقا سلسا ومفتوحا وتقدما حقيقيا على صعيد العلاقة السورية - العراقية من شأنه أن يساهم في مساعدة دمشق وبغداد معا، وربما الحالة الإقليمية برمتها.