مع دخول الغزو الأميركي للعراق عامه الرابع لم تعد هناك فرضية واحدة صحيحة من تلك التي روجت لها الإدارة الأميركية سبباً للغزو... بل تبين بأثر رجعي أن الإدارة كانت تعرف من البداية أنها غير صحيحة. ولعل ما أثبته بعض الوثائق والشهادات التي تم الكشف عنها غصباً عن الإدارة الأميركية هو أن غزو العراق كان مقرراً منذ الصباح التالي لأحداث 11/9/2001 ان لم يكن ضمن مشاريع وخطط وزارة الدفاع الأميركية من قبل ذلك كمحور رئيسي ضمن مشروع امبراطوري استمر في انتظار الشرارة المناسبة لإطلاقه.

لقد بدأت الإدارة الأميركية بغزو أفغانستان كرد مباشر على ارهاب 11/9/2001 وفي حينه تسامح العالم كثيراً مع فرضية وجود علاقة سببية بين جماعة طالبان الحاكمة في أفغانستان وبين أحداث 11/9/2001. بعدها جرى تلخيص طالبان في تنظيم «القاعدة» بزعامة أسامه بن لادن الذي خرج الرئيس جورج بوش يقول عنه وقتها إنه «مطلوب حياً أو ميتاً». من المفيد هنا أن نتذكر أن التعبئة الدعائية من أجل غزو أفغانستان استخدمت فيها الإدارة حججاً شتى... في مقدمها إمكان حيازة تنظيم القاعدة لأسلحة دمار شامل. بل جرى تالياً نشر «أدلة» عن حيازة القاعدة لوثائق ورسومات وتصميمات تؤكد سعيها لحيازة أسلحة نووية. وبرغم هول الإدعاء وعدم امكانيته عملياً... إلا أن العالم تسامح وقتها مع السياسة الأميركية الجديدة على اعتبار أنها ربما الطريق الأقصر لامتصاص طاقة الغضب الشعبي داخلياً مما جرى على الأرض الأميركية في 11/9/2001.

لكن بمجرد الفراغ من أفغانستان بدأ التمهيد لغزو العراق بإعداد ملفات و «أدلة» تؤكد الخطر الداهم على البشرية من وجود أسلحة دمار شامل بحوزة النظام الحاكم في بغداد. وكانت ذروة التحضير الدعائي في المسرح الدولي هي جلسة مجلس الأمن الدولي التي جلس فيها كولن باول وزير الخارجية الأميركي وقتها ليستعرض أمام المجتمعين «وثائق» و»أدلة» بالصوت والصورة تؤكد حيازة العراق لأسلحة دمار شامل... بل أكد ديك تشيني نائب الرئيس ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع علناً أن الإدارة تعرف تحديداً أماكن ونوعيات تلك الأسلحة... بينما في الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي خرج الحليف الصغير توني بلير رئيس وزراء بريطانيا ليؤكد رسمياً أن أسلحة الدمار الشامل العراقية جاهزة للإطلاق خلال 45 دقيقة من صدور الأمر العراقي بذلك.

في الطريق الى الغزو وأثناء الغزو وبعد الغزو تساقطت الأدعاءات واحداً بعد الآخر. عندها فقط جرى ابتكار فكرة تحول العراق الى بؤرة للإرهاب العالمي ليصبح هذا سبباً جديداً واضافياً لاستمرار الاحتلال الأميركي للعراق. وفي توقيتات مثيرة للتساؤل تلاحقت تسجيلات بالصوت والصورة من أسامه بن لادن وأيمن الظواهري تخدم هذا التوجه الأميركي الجديد. بعدهما جرى اختراع شخصية الزرقاوي الذي كان حتى الغزو الأميركي للعراق موجوداً في المنطقة الكردية شمال العراق، التي كانت أبعد ما يكون عن سلطة وسيطرة النظام المركزي في بغداد. وفي التطبيق العملي نسي الجميع فكرة أن بن لادن (أو الزرقاوي تالياً) مطلوب «حياً أو ميتاً». بالعكس، لقد أصبحت الحاجة ماسة ليبقى كل منهما حياً وقادراً على توجيه انذارات بين وقت وآخر بما يخدم الفكرة الأميركية المستجدة من تحول العراق الى بؤرة للإرهاب العالمي.

وفي اللحظات التي كان يبدو فيها أن الفكرة تستهلك نفسها، جرى رفع عنوان جديد هو تحويل العراق الى منارة للديموقراطية يمتد اشعاعها الى أنحاء الشرق الأوسط، وجرى افتعال انتخابات بعد انتخابات مسجلة بالصوت والصورة للتصدير فوراً الى كل شعوب المنطقة. وكلما جرت انتخابات في ما بعد - سواء في لبنان أو في فلسطين أو حتى في مصر - قيل ان هذا بفضل الغزو الأميركي للعراق. لم يكن هذا صحيحاً لكن الترويج الأميركي للعراق الجديد نموذجاً لم يرتبط أصلاً بحقائق قائمة. ارتبط فقط بحقائق جديدة ملفقة يجري فرضها بحماية مشاة البحرية الأميركية.

في أحد الأجتماعات التي رتبتها المخابرات الأميركية عشية الغزو للمعارضة العراقية في المنفى خرج أحدهم بملاحظة اعتراضية قائلاً: طلبتم منا كأميركيين أن يتحدث كل منا معكم ككردي، أو شيعي أو سني. لكن: متى تتحدثون معنا كعراقيين؟ بالطبع لم يحصل على اجابة. حصل فقط على الوقائع الجديدة. أولى تلك الحقائق تتعلق بمنطقة كردية في الشمال جرى تشكيل ملامحها سنة بعد سنة قبل الغزو بعشر سنوات. والآن أصبحت لتلك المنطقة علمها الخاص ولغتها الخاصة وحكومتها الخاصة وبرلمانها المستقل وعملتها المستقلة وجيشها المستقل وسلطاتها الحدودية المستقلة. وحينما جرى افتتاح البرلمان الكردي الجديد أخيراً كان السفير الأميركي في بغداد هو في مقدم السفراء الأجانب الذين تمت دعوتهم ليكونوا شهوداً على تلك الحقيقة السياسية الجديدة في الخريطة. أما الدستور العراقي الجديد فقد سمح لكل ولاية أن تستقل هي أيضاً متى رغبت في ذلك. وفي أرض الواقع أعيد فرز الشعب العراقي كله سكانياً على الأساس الطائفي الجديد الذي تحول الى محاصصة طائفية تتشكل منها الحكومة والبرلمان... وكأن هذا هو أصل الأشياء.

في أصل الأشياء أيضا قرار الحاكم المدني الأميركي السابق بول بريمر بحل مؤسسات الدولة المركزية في العراق... بدءاً من الجيش والشرطة. قرار يحول العراق كله الى أشلاء على مدار الساعة. ومع ذلك فإن بول بريمر مستمر في الأعتزاز به حسب مذكراته عن عمله في العراق. لم يؤد الغزو فقط الى قلب العراق رأساً على عقب وتفكك الدولة الى شظايا... لكنه أرغم كل طائفة على أن تكون لها ميليشياتها الخاصة برعاية - بل وتشجيع - سلطات الاحتلال.

لكن الأخطر من هذا وذاك، والمسكوت عنه حتى اللحظة، هو وجود جيش جديد من المرتزقة الأجانب - عشرون ألفاً على الاقل - مسلحون ومدربون ومخضرمون ومحترفون وانما بثياب مدنية. هؤلاء المرتزقة هم الأجانب الذين جاءت بهم وزارة الدفاع الأميركية الى العراق بعقود مالية سخية وأسلحة متطورة بما فيها طائرات هيليكوبتر وأجهزة اتصال وشبكة معلومات متطورة. وفي البداية قيل انهم لحماية المؤسسات والشخصيات العامة في العراق بمن فيهم بول بريمر نفسه حين كان حاكماً هناك. لكن تالياً استمر جيش المرتزقة هذا غامض الملامح مجهول الأهداف ومحصنا ضد المساءلة أو الملاحقة العراقية عن أي من أفعاله السابقة واللاحقة، بحسب القرارات الأخيرة من بول بريمر نفسه التي تتقيد بها كل حكومة تالية في العراق. وفي كل محاولة داخل الكونغرس الأميركي لفتح هذا الملف تحديدا ترفض الإدارة الأميركية تماماً، ولا تكشف حتى عن المقررات المالية التي يتم دفعها للشركات المتعاقدة معهم. ليس ممنوعا فقط على الحكومات العراقية محاسبتهم، بل وممنوع على الكونغرس الأميركي معرفتهم، لأن جيش المرتزقة هذا يقوم عمليا بالمهام الأخرى التي لا تريد الإدارة الأميركية أن تتحمل مسؤوليتها علناً، ولا في أوراق وملفات موثقة.

طوال السنوات الثلاث الأولى من غزو العراق لم تتحمل الإدارة مطلقا طرح كلمة « الانسحاب» ولو كعنوان نظري في نقاش عام بحجة أن الكلمة بحد ذاتها ستعطي رسالة خاطئة لمن يمارسون «الإرهاب» في العراق. في الأسابيع الأخيرة، وتحت ضغط الأحداث واستمرار «التمرد» و2500 قتيل أميركي رسمياً (بخلاف المرتزقة) بدأت الخريطة السياسية الأميركية تتقبل الكلمة نظرياً لمجرد احتواء وامتصاص خصومها السياسيين. وفي شهر كانون الثاني (يناير) الماضي جمع الرئيس الأميركي جورج بوش وزراء الدفاع والخارجية الذين خدموا في الإدارات السابقة رغبة في الاستماع الى أية آراء مخالفة قد تكون لديهم. بعدها تبين أن هذا «الاستماع» لم يزد عن عشر دقائق فقط لزوم الكاميرات، وهو ما جعل بعضهم يحس بالإهانة. في الشهر الماضي كرر الرئيس بوش الاجتماع بهم لكنه منحهم في تلك المرة الثانية 45 دقيقة من وقته، ربما كدليل مفحم على أنه يتقبل الرأي الآخر.

منذ أحداث 11/9/2001 وحتى الآن تصرفت الإدارة عمليا على أساس أنه لا يوجد - ولا يجب أن يوجد - رأي آخر. توجد فقط فكرة: من ليس معي فهو ضدي. وكلما نسفت الأحداث والتطورات طروحات الإدارة استبدلتها بطرح جديد. آخر طرح في هذا السياق هو ما أعلنه الرئيس جورج بوش في 28/5/2006 أمام خريجي الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت. في الطرح الجديد هناك ثلاث ملامح. أولاً: أميركا ستمضي في استراتيجيتها الهادفة الى «ارساء الحرية في الشرق الأوسط». ثانياً: في الحرب الباردة قادت أميركا صراعا عقائديا بين الحرية والاستبداد. الآن صراع جديد يماثل الشيوعية الأمبريالية في خطرها على العالم. ثالثاً: ان الجيل الجديد في الجيش الأميركي مدعو الى الانتصار في هذه «الحرب الطويلة على الأسلام الراديكالي».

المقارنة هنا لافتة من نواحٍ عدة. فالحرب الباردة كانت صراعا باتساع العالم. وهي استمرت لنحو 45 سنة. وهي احتاجت الى ميزانيات تسلح ضخمة ومتصاعدة. واحتاجت الى قواعد ووجود أميركي في كل المحيطات والقارات. واحتاجت الى غطاء دعائي يجعل من أميركا قائدة «للعالم الحر» في مواجهة الدول فيما وراء «الستار الحديدي». واحتاجت داخلياً الى اعادة فرز الصفوف تحت سيف «المكارثية» التي لا تحاكم الآخرين على افعالهم فقط، وانما على مشاعرهم أيضاً، وربما على أحلامهم. العدو على الأبواب ولا وقت للنقاش. فباسم الحرب الباردة امتنع النقاش العام للسياسات الخارجية الأميركية.

والآن سقطت الشيوعية واختفى عدو الحرب الباردة، لكن لا وقت حتى لالتقاط الأنفاس. الآن يوجد العدو البديل وخطره داهم وعنوانه هو: الإسلام الراديكالي. لكن انتحال غطاء وطابع ديني هنا هو أمر ملفق بمثل ما كان الطابع الأيديولوجي ملفقاً في الحرب الباردة. في الواقع هي نظرية الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول الثابتة من جديد: ان الدول تنتحل أحيانا ثوباً ايديولوجياً لصراعاتها. لكن الصراع يظل في جوهره دائماً صراعاً بين مصالح وموارد واستراتيجيات للهيمنة والسيطرة ونهب موارد الضعفاء... لمجرد أنهم ضعفاء.