في زحمة الشعارات والمزايدات التي تتخم الواقع العربي «الحزيراني»، نفتقد أمثال سمير قصير، الكاتب والمثقف والأكاديمي والمناضل الشهيد، الذي أحسب أن كل تقدمي عربي حيىّ الذكرى الأولى لاغتياله خلال الأسبوع الماضي.

إن أصواتاً جريئة كصوت سمير، وأقلاماً جريئة كقلمه، تُفتقَد في ظلمة التضليل المتعمد والعروبة المزوّرة ... المتاجر (بفتح الجيم) بها كل يوم وكل ساعة، بهدف إذلالها وتشويهها و«شرشحتها»، وصولاً إلى إسقاطها كخيار استراتيجي لهذه الأمة. وحتى يوم الاغتيال الفظيع 2 حزيران/يونيو 2005، كان لسان حال سمير عن العروبة والهوية العربية «ربِّ نجني من إصدقائي... أما أعدائي فأنا كفيل بهم».

سمير قصير لم يكن أول شهداء العروبة الحقيقية، بمضمونها الديمقراطي التقدمي الذي يحترم حقوق الإنسان، ويعلي شأن الحريات العامة، وينكر التسلط والقمع والاستزلام ولغة التقتيل ... فقبله سقط ـ بل أسقط ـ شهداء كبار، وسيسقط بعده شهداء كبار.

ولم يكن سمير قصير أول من نبّه إلى خطورة التحديات وأيضاً المزايدين من سارقي الشعارات والأحلام ومفتعلي الفتن ومضللي الناس الطيبين الذين تربّوا على وعود الكرامة والتحرير والوحدة. فقبله روّاد مثقفون استشرفوا النكبة الكبرى في فلسطين وكل المستفيدين منها بعد عقود آتية. ولقد قضى اولئك الرّواد مقهورين محبطين، بينما قفز أدعياء الوحدة والتحرير إلى قصور السلطة... يقمعون كل من يعرف حقيقتهم.

ولم يكن سمير قصير أول من عمل بعقله وقلبه وجهده على انتهاك حدود «واقع التجزئة» لتعميم الفكر التنويري التحرّري الذي لولاه لتحوّلت العروبة ـ كما تحوّلت فعلياً في بعض الأماكن ـ إلى سجن مظلم كبير ... لكنه كان رجلاً يمجّ الكذب ويحتقر الكذابين، ويؤمن بأن التحرير لا ينجزه إلا الأحرار.

باختصار، سمير كان شاهداً نقياً، لكنه بخلاف كثيرين، تمتع بالجرأة الكافية لكشف مواطن الخطر المحدق بمصير الأرض التي يعشق ويحب... الأرض التي اختصرت عنده وبشخصه حدودها المصطنعة.

فقد عاش سمير قصير عروبته الصافية قصة حب مع ثلاثة «كيانات» عربية لكل منها نصيب فيه. وكانت قضايا الحريات في سورية والتحرر في لبنان والتحرير في فلسطين هاجسه الأساس، كاتباً ومحاضراً ومؤلفاً وناشطاً ... وظلت كذلك حتى يوم استشهاده.

ولكن لبنان في يوم ذكراه الأولى كان مسكوناً بحدثين آخرين:

الأول، مهرجان هدف بعد 19 سنة من اغتيال الزعيم الوطني الكبير رشيد كرامي إلى استنهاض كل أحقاد الماضي، بخلفياتها الفئوية والطائفية والعصبية المحلية التقليدية في سبيل إكمال انقلاب سياسي كامل على مشروع إعادة بناء الدولة.

والثاني، «غوغائية» إعلامية و«غوغائية» شارعية مضادّة فضحتا اتساع الهوة النفسية والثقافية التي باتت تفصل بين مكونات المجتمع اللبناني، بعد تناول برنامج تلفزيوني ساخر على قناة الـ«إل بي سي» (تحت إدارة مسيحية) شخصية الأمين العام لـ«حزب الله».

إن المشهد المأساوي الذي يفرض نفسه الآن على كل عربي عاقل ذي ضمير حيّ، هو تعذر التوصل إلى استراتيجية جدية واعية لمنع تفتت المنطقة بين «مطرقة» الحق في المقاومة و«سندان» الحاجة إلى بناء الدولة الضامنة للسلم الأهلي والتنمية الاقتصادية.

في لبنان، كما في فلسطين وفي العراق وسورية والأردن وغيرها من الدول العربية المأزومة ...

نعم هناك احتلال لا بد من مقاومته، ولكن هل تنجح المقاومات المجزوءة الارتجالية؟

نريد تنمية تقطع الطريق على الفقر والبطالة والهجرة، ولكن هل تقوم تنمية في ظل اللا استقرار؟

شعوبنا تصر على الصمود وتدعم التنظيمات المقاومة، ولكن هل تستطيع هذه التنظيمات لدى توليها الحكم كـ«حماس» أو مشاركتها فيه كـ«حزب الله»، الجمع بين نضالية المقاومة وفدائيتها ومسؤوليات السلطة وتبعاتها والتزاماتها؟

هل لدينا الصراحة الكافية، والشجاعة الكافية، للتطرق إلى «المحظورات» كالتساؤل عن أسباب الإحجام عن فتح كل الجبهات ضد العدو الإسرائيلي؟

هل لنا أن نسأل عن فكرة تحويل اقتصاداتنا إلى «اقتصادات حرب» كما كانت حال دول الهند الصينية إبان حروب فيتنام ولاوس وكمبوديا؟

شخصياً، لا أجد أي مانع في فتح كل الجبهات وإعلان «اقتصادات حرب» ومقاومة، وتأجيل كل خطط الاستثمار والتنمية، ولكن هل هذا حقاً ما يريده الحاكمون المتحمسون لتخوين كل من يناقشهم بالمنطق ... من أجل معرفة الحقيقة؟ الحقيقة التي كان يعرفها سمير قصير جيداً؟