لا أحد في الحكم العراقي الحالي يستطيع القول إن أزمة البصرة كانت مفاجأة. فالوضع في المدينة وما حولها تغير غداة الاحتلال مباشرة، مثلما حصل في مختلف المناطق. وفي ظل قوات الاحتلال، بريطانية كانت كما في الجنوب، أم أميركية، نشأت ميليشيات محلية ما لبثت أن قويت وترسخت، وهي تبحث الآن عن توطيد سلطتها وتركيزها وإدامتها. ومن يقول «سلطة» يقول أيضاً موارد مالية، سواء بالحصول على دعم أو عقود وهمية لكن مجزية، أو بالتهريب والمصادرات وحتى بالسرقات. ثم أن «السلطة» تعني تحالفات وتغلغلات داخل الحكم، وبالتالي استغلال إمكانات «الدولة» الناشئة وتغطيتها، فضلاً عن الألبسة والسيارات والذخائر الرسمية.

وهكذا فإن المشكلة في البصرة هي ذاتها في بغداد، ومع اختلاف الانتماءات والتوجهات هي ذاتها أيضاً في المناطق الأخرى لكن الميليشيات هنا لا سند لها في «الدولة»، وإنما هي متمردة عليها. المفارقة أن العالم، إذ ينشغل بفضائح قوات الاحتلال، خصوصاً الأميركية، وما تكشّف منها في حديثة والإسحاقي، ينشغل العراقيون في ما بينهم، ليس فقط بتصفيات مذهبية شبه يومية، بل بصراعات بين ميليشيات ذات انتماء واحد، إلا أن التنافس على السيطرة اشتد أخيراً من قبيل التمهيد لمرحلة «الفدرلة» المعممة. وأصبح معروفاً أن الفيديرالية هي الاسم الآخر للتقسيم.

يجري الأمر وكأن قوات الاحتلال جاءت لتسلّم العراق الى كل من رغب ويرغب. فهي حصرت مهمتها في اسقاط النظام السابق، ثم تولّت تصفية الدولة والجيش والمؤسسات، كما عطلت الخدمات، وعلى رغم أنها حرصت أولاً على «تأمين» منشآت النفط، إلا أنها لم تتمكن من إعادة الانتاج الى ما كان عليه، بل يبدو أنها دخلت في صفقات وتسويات محلية لضمان عدم مهاجمة الأنابيب وأخيراً اتضح أن عمليات تهريب واسعة كانت ولا تزال تتم بعلم الجميع، بمن فيهم سلطة الاحتلال. وانسجاماً مع نهج تسليم البلد الى من يرغب تركت الميليشيات والجماعات المسلحة كافة تتركز وتستفحل، كما يظهر من المناورات الدائرة مع إيران أن الأخيرة وسعت نفوذها في العراق، لكن الى أي مدى، هذا ما لا تعرفه حتى سلطات الاحتلال نفسها.

يفترض أن الحكومة الجديدة شكلت لتتسلم شؤون العراق للسنوات الأربع المقبلة. وعلى رغم المخاض الطويل والعسير الذي سبق ولادتها، إلا أن شيئاً لا يطمئن الى انها ستتمكن أخيراً من إحداث الفارق مع الحكومات التي سبقتها. صحيح أن جهداً كبيراً بذل لجعلها «حكومة وحدة وطنية»، بمعنى أن الطوائف الرئيسية ممثلة فيها وباتت ملتزمة انجاح العملية السياسية، إلا أن الواقع لم يشهد تغييراً جوهرياً. ثم أن الأمراض التي فتكت بفاعلية الحكومة السابقة لا تزال سارية، إذ أن عجلة التعفن الأمني والتناحر المذهبي تبدو أكثر حيوية واختراقاً من محاولات وقفها. والمؤسف أن الجلوس الى طاولة واحدة لمجلس الوزراء لا يعني أن الثقة باتت متوفرة للعمل معاً.

أكثر من ذلك، يبدو الهاجس التقسيمي كأنه عامل أساسي في تعطيل حسم حقيبتي الدفاع والداخلية حتى الآن. وعلى رغم أن الشخصيتين المختارتين لهاتين الوزارتين لن تتمكنا من ثني الأطراف الساعية الى التقسيم عن أهدافها، إلا أن عناصر اختيارهما تتعلق بالضرورة بـ «العقيدة» الأمنية والدفاعية التي سيعملان لتطبيقها. لا بد أن يكون الجيش للجميع والأمن للجميع، ولا بد أنهما يتناقضان جذرياً مع سلطة الميليشيات وأجندتها المذهبية. لذلك يتبدى الآن أن الأمر الواقع أصبح أقوى من «الدولة»، فمن جعله كذلك؟ المسؤولية هنا هي مسؤولية الطاقم السياسي العراقي ومن ورائه مسؤولية سلطة الاحتلال.