لا تبدو المسألة مجرد استرجاع للحدث، فرغم تراكب الحروب وتشابه الصور التي ترسمنا على شاشات الفضائيات، لكننا على عكس الزمن الراحل لا نعرف كيف نوجه الذاكرة. ولأن حرب حزيران صور ممحية فهي ليست أثرا .. أو مخطوطة خاضعة للتحقيق على منهج الغارقين في الكتابات القديمة، وحرب تشرين لم تمحُ ثقافيا على الأقل ما أحدثته "حرب الأيام الستة" حسب التعبير العبري، كما أن حزيران 1982 لم يشكل أي خارطة جديدة للهزيمة. ففي النهاية كان عام 1967 هو الهزيمة الاجتماعية التي جعلت من العلمانيين صورا معلقة على جدران الموت ... ومن الحداثيين حالة منحسرة بسرعة البرق، وكأن التجربة التي نخوضها تنتهي بحدود هزيمة فئة اجتماعية دون أخرى.

نريد استعادة ما حدث لأن حزيران لم يكن في صوت "المذياع" الذي يصرخ "ميراج طيارك هرب" .. ولا في رجة "الصوت العربي" الذي بقي صارخا رغم ظلال الهزيمة، فالمشكلة أن التنافس الاجتماعي انتهى نحو صيغ الاستقرار وانقلب أصحاب المستقبل ليصبحوا مبشرين بالأمس، دون أن نقصد هنا محمد عمارة تحديدا، لكن الأسماء التي تصاعدت من وحي الحداثة كانت بعد حزيران تعيد حسابات الماضي من جديد، لأن "المستقبل" و "الحداثة" و "النهضة" لم تبلور رؤيتها التي انهارت أمام العجز العسكري.

لحزيران ملف مستمر حتى اللحظة الراهنة ... ولحزيران أجيال تكاملت مع طبيعة الهزيمة الثقافية، فلم تنتشلها "الانتصارات السياسية" أو كسر حدة العدوان ... ولحزيران ذاكرة مستقبل طويل ربما بدأت مع "هوامش على دفتر النكسة" لنزار قباني، ثم تطورت بقراءة العقل العربي لمحمد عابد الجابري، لكنها حتما لم تنته مع حركات التكفير والهجرة و الأفغان العرب، فما أحدثه حزيران يحتاج لأكثر من حروب تحرير ... يحتاج لتحرير "الحداثة" من جديد، ولرسم "علمانية" ببعد اجتماعية، واخيرا التخلص من أوهام القدرة على الانتصار بمجرد الاقتناع بأن "النهصة" فعل ضروري وأن التراث يبقى ماضيا فقد زمنه.

لا نعرف إذا كانت الأجيال اليوم قادرة على قراءة "تاريخ النكسة" لكننا مضطرون لتقديمها على صفحات "الغد"، لأنها أكثر من حدث ... فهي صور ستبقى معنا لتصبح تراثا في يوم من المستقبل.