مهما كانت الأسباب التي دفعت القيادة السياسية والأمنية السورية إلى حملة الاعتقالات المكثفة الأخيرة التي توجت أشهرا طويلة من تعقب الناشطين الحقوقيين والسياسيين، يشكل زج أبرز المثقفين السوريين في السجن وملاحقتهم، في محاكم عسكرية ومدنية، بتهم خطيرة مثل تقويض هيبة الدولة أو إثارة النزاعات الطائفية أو قلب نظام الحكم أو التآمر مع قوى أجنبية، إساءة بالغة للنظام الحاكم أولا ولسورية ثانيا وللشعب السوري ثالثا، قبل أن تشكل إساءة لسمعة المثقفين ومكانتهم. وهي بعيدا عن أن تخدم النظام، تقدم لجميع أولئك الذين اعتقدوا أنه قد نجح في الأشهر الماضية في أن يستعيد توازنه، بعد ما أبداه من القلق على مستقبله في المرحلة الأولى من بدء التحقيقات في مقتل رفيق الحريري، ولأولئك الذين خيبت السياسات الأمريكية الهوجاء آمالهم، البرهان على أن النظام لا يزال يتخبط في أزمته السياسية والخارجية، ويتصرف كما لو أنه فقد الأمل نهائيا بالخروج من محنة الفراغ السياسي القاتل الذي يهدد استقراره، ولا يترك له، خارج دائرة القمع العسكري والامني، أي خيار. لقد جاءت حملة الاعتقالات الأخيرة لترسخ الاقتناع من جديد، لدى الكثير من الأطراف، بأن العدو الأول للنظام هو، في الحقيقة، النظام نفسه، وأن المعول الرئيسي الذي يجدر بالقوى الداخلية والخارجية المتخاصمة معه أن تراهن عليه لتقويض أسسه، هو تطرف النظام نفسه وفقدانه الثقة بذاته وبقدرته على البقاء، وليس الضغوط الخارجية أو بيانات المعارضة الديمقراطية.

كانت السلطات السورية تعتقد على ما يبدو أن الضرب بشدة على يد المثقفين والناشطين المدنيين الذين حلوا محل المعارضة في لتذكير بمخاطر الاستمرار على النهج القديم، سوف يمكنها من استعادة زمام المبادرة السياسية في الداخل بعد أن بدت خلال السنوات الماضية وكأنها تقف على مواقع دفاعية، في سبيل التفرغ للمواجهة الخارجية، التي لا يزال لبنان يشكل المسرح الرئيسي لها كما كان عليه الحال في السابق ولو بشروط مختلفة. بل ربما كانت تطمح، أكثر من ذلك، إلى استغلال مناخ المواجهة الخارجية هذه في سبيل فرض الامتثال والاصطفاف وراءها على المثقفين والناشطين السياسيين وإظهار سورية، كما كانت في التسعينات، ككتلة واحدة صلدة لا يمكن بأي حال تمييزها عن النظام الذي يسيطر على مصائرها، وبالأحرى فصلها عنه.

بيد أن نتيجة هذه الاعتقالات التي صدمت بطابعها المتطرف أوسع قطاعات الراي العام العربي والعالمي، الذي لم يشهد ما يماثلها في أي دولة أخرى منذ انهيار الكتلة السوفييتية وتقاليدها الأليمة، جاءت مناقضة تماما لما كان يتوقعه مصمموها. فهي لم تنجح، وما كان من الممكن لها أن تنجح، في ظروف التدهور الواضح في مواقع النظام الاستراتيجية، في أن تبث الرعب المنتظر منها في قلوب المثقفين والمنظمات المدنية، ولكنها عززت بالعكس الاعتقاد لدى جميع الأطراف بتفاقم أزمة النظام وتمثله، كما لم يحصل من قبل، منطق الحصار وما ينجم عنه من ردود أفعال تعكس الكثير من ضيق الصدر بالاختلاف، مهما كان محدودا، وبفقدان الأعصاب. وبدل أن تساهم في تحصين المجتمع ضد عدوى الحراك السياسي الذي انطلق من جديد في البلاد منذ تولي بشار الأسد الحكم في بداية الألفية الثالثة، قادت بالعكس إلى انتشار أفكار المعارضة خارج حلقاتها الضيقة القديمة، وشكلت أكبر حملة دعائية غير مقصودة لخدمة أهدافها. فبزجه المثقفين والناشطين في السجن قدم النظام القائم الدليل على أنه يخاف منهم ويأخذ على محمل الجد نشاطاتهم، وأن المعارضة ليست قوة مهملة أو لا وزن لها، كما بقي يردد منذ سنوات، وإنما هي قوة فاعلة بدليل أنها تشكل خطرا عليه. وليس هناك شك أن الحملة الواسعة التي شنتها الصحافة الرسمية على الناشطين السوريين لتوقيعهم على إعلان دمشق بيروت، وبهدف تبرير توقيفهم، قد ساهمت، كما لم تفعل أي وسيلة إعلامية من وسائل المعارضة، في فتح عيون الرأي العام بأكمله على وجود معارضة في البلاد، في الوقت الذي عمل فيه التضخيم من مخاطر نشاطها على القضايا الوطنية على زيادة صدقيتها ووزنها وبالتالي قدرتها على أن تشكل خصما فعليا للنظام.

كان من الممكن لمثل هذه الحملة أن تكون ذات نتائج معاكسة لو كان النظام لا يزال في مرحلة الصعود، كما كان عليه الأمر في الثمانينات، ولم تكن مواقعه قد تعرضت إلى التآكل في الداخل والخارج معا. لكن في الظروف الراهنة، حيث يسود التململ والقلق على المصير قطاعات واسعة من المجتمع، ويدفع تدهور الأوضاع المعيشية والسياسية معا إلى المزيد من النقمة وإرادة الاحتجاج، يؤدي التهويل من مخاطر المعارضة إلى فتح عيون الناس الذين يترددون في العمل ويفتقرون لقيادة سياسية يثقون فيها على السياسة والسياسيين ويؤكد لهم بأن المعارضة المنظمة ربما تكون البديل الوحيد لوضع أصبح اسمه رديفا للخوف والتطرف وعدم الاستقرار. ومن هنا، حتى وهي محنية الرأس والظهر تحت سيف الاعتقالات المسلط، وربما بسبب ذلك، تحصد المعارضة اليوم، بسبب فعل النظام نفسه، أضعاف ما كانت تطمح إليه من خلال نشاطاتها السياسية الخاصة الممنوعة. لقد أدخلت الحملة الإعلامية المغرضة والاعتقالات اللامعقولة، في أذهان جميع أولئك الذين يسحقهم الشعور بالهامشية والبؤس والغبن والظلم، من كل الطبقات والطوائف والأقليات، مفهوم المعارضة السياسية وقدمت لهم، في معاركهم القادمة، ناطقين رسميين كبار، هم بأمس الحاجة لمساعدتهم.

هكذا تحولت الحملة السياسية التي أرادت أن تضع حدا لوجود المعارضة، حتى في أشكالها المخففة المدنية والثقافية، إلى فضيحة للنظام الذي بدا وكأنه لا يعرف، في مواجهة المطالب والنداءات ودعوات الحوار الوطني الاجتماعية، سوى لغة الاعتقال والضرب والإهانة. لقد أظهرت حدود ثقة النظام بنفسه وشكه العميق، هو نفسه، بمصادر شرعيته، واستسهاله التعامل مع شعبه كما تتعامل نظم الاحتلال مع شعوب أجنبية أخضعتها بقوة السلاح.

لقد أحدثت الاتهامات الخطيرة غير المبررة، واستخدام العنف في مواجهة الانتقادات الفكرية والسياسية، ثغرة كبيرة في دفاعات النظام، بقدر ما أظهرت شكه هو نفسه بتأييد الشعب والرأي العام له، وقدرته على الاعتماد على حجج فكرية وسياسية مقبولة في وجه مناوئيه، ومن ثم بقدرته على الاستمرار. فأعطت الانطباع للجميع بأن السلطة تخوض معركة يائسة لا أمل فيها. ولا تحتاج المعارضة اليوم إلى أكثر من تعميم صور تهجم الصحافة وقادة أجهزة الأمن على المثقفين، وشتمهم والتنكيل بهم في السجون التي وضعوا فيها مع المجرمين، وأن تنشر نصوص الإدعاءات والتهم الموجهة لهم، والتي قالت الصحافة الرسمية نفسها أنها كفيلة بان تدينهم بالأحكام المؤبدة، وبعضها تنبأ حتى بعقوبة الاعدام، حتى تسقط آخر ما تبقى من أوهام لدى الرأي العام العالمي والعربي والسوري عن تطور النظام وقدرته على تجاوز عيوبه السابقة. أي حتى تحقق المعارضة ما عجزت منذ سنوات طويلة عن تحقيقه : إقناع الرأي العام بأن سورية لا تعيش في ظل نظام إصلاحي يحاول الخروج بالبلاد من الحفرة العميقة التي وضعها فيها نظام الحكم الفردي، ووصاية أجهزة الأمن، وإدارة شبكات المصالح الزبونية وأصحاب الولاء، وإنما تتلوى تحت سياط نظام صمم، حتى يضمن لنفسه البقاء والاستمرار، على العودة بشعبه نحو القرون الوسطى، والقفز عن كل ما حققته المجتمعات البشرية من تقدم في مجال تنظيم الحياة المدنية والسياسية، وما حققه المجتمع السوري نفسه من هذا التقدم، في القرنين الماضيين.

مهما كان الأمر، ستشكل هذه الاعتقالات التي تظهر درجة الاستهتار بالقيم والمعايير القانونية والسياسية المتعارف عليها، والمبالغة اللامعقولة في توجيه التهم، وتخوين رموز الوطنية والاصلاح، وكيل الشتائم المجانية لهم على صفحات الجرائد الرسمية، نقطة بارزة في تطور أزمة النظام السياسة ومستقبله. وبقدر مساهمتها في تعرية الواقع الذي جهد النظام خلال السنوات العديدة السابقة للتغطية عليه أو الهرب منه، أقصد واقع السلطة الضيقة والمعزولة التي تحكم بالقوة، ولا تنجح في الحفاظ على استقرارها واستمرارها إلا بالاستخدام الواسع للعنف، سوف تقلص أيضا من هامش المبادرة الواسع الذي بقي الحكم يتمتع به، بالرغم من كل شيء، في دوائر واسعة من الرأي العام العربي والعالمي. فإذا صحت حسابات النظام في المراهنة على أن وضعية الدول الغربية في المنطقة لا تسمح لها باستغلال هذه الحملة لتكبيل النظام بقرارات دولية وعقوبات جديدة، فإنها أخطأت في ما هو أهم من ذلك بكثير، أعني في الاحتفاظ بتعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي والعربي، الذي أصبح يخشى من أن يتحول موقفه المؤيد لسورية وشعبها ضد السياسات الغربية العدوانية، إلى غطاء لتبرير سياسات لا إنسانية، من المستحيل الدفاع عنها، وغض النظر عن التفرد بالسلطة، وتفريغ المجتمع من أي إرادة مستقلة، من خلال فرض الصمت والخنوع على قادته ورموزه ومثقفيه.

لقد أدخل النظام نفسه عبر حملة الاعتقالات الأخيرة في ورطة جديدة. فلم تعد الضغوط الموجهة إليه صادرة عن قوى عدوة أو منافسة، وإنما بشكل أكبر عن القوى الصديقة والمؤيدة التي أصبحت مضطرة إلى تمييز نفسها عنه، أعني عن قوى الرأي العام العربي والعالمي التي كانت أهم ورقة في يده لضبط الأوضاع الداخلية. ولولا الاستخفاف بالمعاناة المأساوية للمعتقلين وذويهم، لصدق القول بأن أجهزة الأمن السورية وقادتها قد قدموا بهذه الاعتقالات هدية لا تقدر بثمن للمعارضة. ولو كان هناك داخل أروقة السلطة من لا يزال يملك الحد الأدنى من الحس السياسي لبادر بأسرع وقت إلى الافراج عن المعتقلين، من دون انتظار استسلام لن يحصل مهما طال العقاب. ليس ذلك استجابة لنداءات منظمات حقوق الانسان، ولا خضوعا للضغوط الأجنبية، ولكن من أجل استعادة بعض الصدقية لنظام دفع به الخوف والشك من دون أن يدري إلى جعل العنف سياسة رسمية يومية، لدرجة أصبح فيها حلفاؤه أنفسهم يشكون في قدرته على تكييف سلوكه مع الحد الأدنى من المعايير القانونية، بل في مقدرته على السلوك بصورة عقلانية.