لا يحتاج المجتمع السوري للتحريض لأنه يعيش كل الوقائع السياسية والثقافية التي تسردها البيانات، وكأنها "حكايا" من زمن الطفولة عليها أن تلهب الخيال، فالحياة اليومية واقع يبحث فيه المواطن عن كل المنافذ وعن المساحات التي يحتاجها. وإذا كان الخيال ضرورة إبداعية فإن مجاله على ما يبدو خارج "الديباجات" السياسية، لأن المعارضة على طريقة "أضرب وهرب" هي في النهاية اقتباس غير موفق من تنظيرات حرب العصابات.
بالطبع فإن المجتمع السوري يعرف تماما المساحات السياسية المحجوبة أو التي يريدها، ويعي أن مجالي المعارضة والسلطة، وفق التحليلات السياسية، لا يمكن أن تحكم معادلة حياته طالما بقيت بهذه الصورة المرتجة، فالمسألة أعقد من أن تحسم بمهرجانات تستضيفها عواصم العالم في وقت يشهد فيه تجارب متعددة في محيطه الجغرافي، وربما على المتحمسين لعلميات التغير الأخذ بعين الاعتبار أن المجتمع يفهم التجارب وهو ليس بمعزل عن تسارع الحدث الذي داهمه من أحداث أيلول أو احتلال العراق أو حتى اغتيال رفيق الحريري. فالصور التي شهدها ليست صماء والدعوات "الانقلابية" لا بد ان ترسم أمامه مسارا هو بالتأكيد ليس ديمقراطيا.

كان من المتوقع أن تخرج الدعوة الديمقراطية من الحدود الضيقة المرسومة لها على سياق "الثقافة" التبشيرية، سواء من الإدارة الأمريكية أو من الحركات الجهادية. وكان من المتوقع البحث عن ملامح غير "الضغط" السياسي، واعتبار "الغنيمة" مذهبا يمكن اعتماده حتى عند رسم مستقبل المجتمعات. لكن ما حدث يبدو أنه مازال يخضع لاختناق السياسة، ولضغط الإجراءات المفروضة من الداخل والخارج، لتصبح الحياة العامة نوعا من البحث في المجهول.
هل يتوقع العاملون في الشأن العام أن لا يسحقنا الألم عندما تصبح خيارتنا محكومة بمذهب القبيلة، أو عندما تتم مخاطبة المجتمع كأعداد وجموع بشرية!! وهل يستطيع المهتمون بالشأن العام، وهم وفق بعض الحسابات "نخب"، أن تصبح المعادلات الداخلية على سياق التقسيمات التي حملها "غورو" عشية الانتداب!! فإذا كانت "حسابات" بعض أطراف المعارضة على سياق احتكار الحق لأنفسهم فإن الطريق لن يكون قصيرا حتى نخرج من مأزق "الثنائيات" التي أمامنا ...

المواطن ليس "خائفا" من السلطة حتى يكسر هذا الحاجز ... وهو ليس أعمى البصيرة حتى تدله البيانات على مساحات الخلل ... والمواطن يريد التحرر من مفهوم "النخب" التي تحتكر حقه في المعارضة، وتحتكر الحلول لنفسها ... والمواطن الذي يعيش "الحر" الخانق وغير الاعتيادي في سورية هذه الأيام، يعرف تماما أن الصورة السياسية لا تتبدل بمجرد رغبة مجموعات في التغير، لأن طبيعة الأزمات أعقد من تناولها فقط بالبيانات و "المؤتمرات" المركبة بشكل عشوائي. فالأزمات تحتاج لأكثر من موقف، وتتطلب رؤية جديدة لـ"معارضة" تنتمي للقرن الواحد والعشرين، وليس للبرامج السياسية التي تخرج من غياهب الحرب الباردة ... أو الحلول المرسومة على شاكلة الثمانينات من القرن الماضي .. فسورية ليست بحاجة لـ"إعلان" معارضة بل لطريق يعرف أن العمل العام هو الذي يؤسس للموقف السياسي وليس العكس.