بدل أن تساهم حملة الاعتقالات المكثفة التي استهدفت العديد من المثقفين وناشطي حقوق الإنسان السوريين في تحصين المجتمع ضد عدوى الحراك السياسي الذي انطلق من جديد في البلاد منذ تولي الرئيس بشار الأسد الحكم في بداية الألفية الثالثة، قادت بالعكس إلى انتشار أفكار المعارضة خارج حلقاتها الضيقة القديمة، وشكلت أكبر حملة دعائية غير مقصودة لخدمة أهدافها. فبزجه المثقفين والناشطين في السجن قدم النظام القائم الدليل على أنه يخاف منهم ويأخذ على محمل الجد نشاطاتهم، وأن المعارضة ليست قوة مهملة أو لا وزن لها، كما بقي يردد منذ سنوات، وإنما هي قوة فاعلة بدليل أنها تشكل خطراً عليه. وليس هناك شك أن الحملة الواسعة التي شنتها الصحافة الرسمية على الناشطين السوريين لتوقيعهم على إعلان دمشق- بيروت، وبهدف تبرير توقيفهم، قد ساهمت، كما لم تفعل أي وسيلة إعلامية من وسائل المعارضة، في فتح عيون الرأي العام بأكمله على وجود معارضة في البلاد، في الوقت الذي عمل فيه التضخيم من مخاطر نشاطها على القضايا الوطنية على زيادة صدقيتها ووزنها وبالتالي قدرتها على أن تشكل خصماً فعلياً للنظام.

كان من الممكن لمثل هذه الحملة أن تكون ذات نتائج معاكسة لو كان النظام لا يزال في مرحلة الصعود، كما كان عليه الأمر في الثمانينيات، ولم تكن مواقعه قد تعرضت إلى التآكل في الداخل والخارج معاً. لكن في الظروف الراهنة، حيث يسود التململ والقلق على المصير قطاعات واسعة من المجتمع، وتدفع الأوضاع المعيشية والسياسية معاً إلى المزيد من النقمة وإرادة الاحتجاج، يؤدي التهويل من مخاطر المعارضة إلى فتح عيون الناس الذين يترددون في العمل ويفتقرون لقيادة سياسية يثقون فيها على السياسة والسياسيين ويؤكد لهم بأن المعارضة المنظمة ربما تكون البديل الوحيد لوضع أصبح اسمه رديفاً للخوف والتطرف وعدم الاستقرار. ومن هنا، حتى وهي محنية الرأس والظهر تحت سيف الاعتقالات المسلط، وربما بسبب ذلك، تحصد المعارضة اليوم، بسبب فعل النظام نفسه، أضعاف ما كانت تطمح إليه من خلال نشاطاتها السياسية الخاصة الممنوعة. لقد أدخلت الحملة الإعلامية المغرضة والاعتقالات اللامعقولة، في أذهان جميع أولئك الذين يسحقهم الشعور بالهامشية والبؤس والغبن والظلم، من كل الطبقات والطوائف والأقليات، مفهوم المعارضة السياسية وقدمت لهم، في معاركهم القادمة، ناطقين رسميين كباراً، هم بأمسِّ الحاجة لمساعدتهم.

هكذا تتحول الحملة السياسية التي أرادت أن تضع حداً لوجود المعارضة، حتى في أشكالها المخففة المدنية والثقافية، إلى أزمة للنظام الذي بدا وكأنه لا يعرف، في مواجهة المطالب والنداءات ودعوات الحوار الوطني الاجتماعية، سوى لغة الاعتقال والضرب والإهانة. لقد أظهرت حدود ثقة النظام بنفسه وشكه العميق، هو نفسه، بمصادر شرعيته، واستسهاله التعامل مع شعبه كما تتعامل نظم الاحتلال مع شعوب أجنبية أخضعتها بقوة السلاح.

لقد أحدثت الاتهامات الخطيرة غير المبررة، واستخدام العنف في مواجهة الانتقادات الفكرية والسياسية، ثغرة كبيرة في دفاعات النظام، بقدر ما أظهرت شكه هو نفسه بتأييد الشعب والرأي العام له، وقدرته على الاعتماد على حجج فكرية وسياسية مقبولة في وجه مناوئيه، ومن ثم بقدرته على الاستمرار. فأعطت الانطباع للجميع بأن السلطة تخوض معركة يائسة لا أمل فيها. ولا تحتاج المعارضة اليوم إلى أكثر من تعميم صور تهجم الصحافة وقادة أجهزة الأمن على المثقفين، وشتمهم والتنكيل بهم في السجون التي وضعوا فيها مع المجرمين، وأن تنشر نصوص الادعاءات والتهم الموجهة لهم، والتي قالت الصحافة الرسمية نفسها إنها كفيلة بأن تدينهم بالأحكام المؤبدة، وبعضها تنبأ حتى بعقوبة الإعدام، حتى تسقط آخر ما تبقى من أوهام لدى الرأي العام العالمي والعربي والسوري عن تطور النظام. أي حتى تحقق المعارضة ما عجزت منذ سنوات طويلة عن تحقيقه: إقناع الرأي العام بأن سوريا لا تعيش في ظل نظام إصلاحي يحاول الخروج بالبلاد من الحفرة العميقة التي وضعها فيها نظام الحكم الفردي، ووصاية أجهزة الأمن، وإدارة شبكات المصالح الزبونية وأصحاب الولاء، وإنما هي تحت نظام صمم، حتى يضمن لنفسه البقاء والاستمرار، على العودة بشعبه نحو الماضي، والقفز عن كل ما حققته المجتمعات البشرية من تقدم في مجال تنظيم الحياة المدنية والسياسية، وما حققه المجتمع السوري نفسه من هذا التقدم، في القرنين الماضيين.

مهما كان الأمر، ستشكل هذه الاعتقالات التي تظهر درجة الاستهتار بالقيم والمعايير القانونية والسياسية المتعارف عليها، والمبالغة اللامعقولة في توجيه التهم، وتخوين رموز الوطنية والإصلاح، وكيل الشتائم المجانية لهم على صفحات الجرائد الرسمية، نقطة بارزة في تطور أزمة النظام السياسية ومستقبله. وبقدر مساهمتها في تعرية الواقع الذي جهد النظام خلال السنوات العديدة السابقة للتغطية عليه أو الهرب منه، أقصد واقع السلطة الضيقة والمعزولة التي تحكم بالقوة، ولا تنجح في الحفاظ على استقرارها واستمرارها إلا بالاستخدام الواسع للعنف، ستقلص أيضاً من هامش المبادرة الواسع الذي بقي الحكم يتمتع به، بالرغم من كل شيء، في دوائر واسعة من الرأي العام العربي والعالمي. فإذا صحت حسابات النظام في المراهنة على أن وضعية الدول الغربية في المنطقة لا تسمح لها باستغلال هذه الحملة لتكبيل النظام بقرارات دولية وعقوبات جديدة، فإنها أخطأت في ما هو أهم من ذلك بكثير، أعني في الاحتفاظ بتعاطف قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي والعربي، الذي أصبح يخشى من أن يتحول موقفه المؤيد لسوريا وشعبها ضد السياسات الغربية العدوانية، إلى غطاء لتبرير سياسات، من المستحيل الدفاع عنها، وغض النظر عن التفرد بالسلطة، وتفريغ المجتمع من أية إرادة مستقلة، من خلال فرض الصمت والخنوع على قادته ورموزه ومثقفيه.

لقد أدخل النظام نفسه عبر حملة الاعتقالات الأخيرة في ورطة جديدة. فلم تعد الضغوط الموجهة إليه صادرة عن قوى عدوة أو منافسة، وإنما بشكل أكبر عن القوى الصديقة والمؤيدة التي أصبحت مضطرة إلى تمييز نفسها عنه، أعني عن قوى الرأي العام العربي والعالمي التي كانت أهم ورقة في يده لضبط الأوضاع الداخلية. ولولا الاستخفاف بالمعاناة المأساوية للمعتقلين وذويهم، لصدق القول بأن أجهزة الأمن السورية وقادتها قد قدموا بهذه الاعتقالات هدية لا تقدر بثمن للمعارضة. ولو كان هناك داخل أروقة السلطة من لا يزال يملك الحد الأدنى من الحس السياسي لبادر بأسرع وقت إلى الإفراج عن المعتقلين، من دون انتظار استسلام لن يحصل مهما طال العقاب. ليس ذلك استجابة لنداءات منظمات حقوق الإنسان، ولا خضوعاً للضغوط الأجنبية، ولكن من أجل استعادة بعض الصدقية لنظام دفع به الخوف والشك من دون أن يدري إلى جعل العنف سياسة رسمية يومية، لدرجة أصبح فيها حلفاؤه أنفسهم يشكون في قدرته على تكييف سلوكه مع الحد الأدنى من المعايير القانونية، بل في مقدرته على السلوك بصورة عقلانية.