نعم مايزال النظام السوري , بالرغم من عوامل ضعفه الموضوعية الداخلي منها والخارجي , قوياً . ربما شعوره هذا هو مايجعله غير مبال بمطالب المعارضة الداخلية (التي تصدّق عليها مؤخراً فوصفها بالوطنية) , بما تنطوي عليه مطالبها من استحقاقات تخصّ الداخل السوري, هذا من جهة , وغير مكترث بتهديدات الخارج وضغوطه من جهة أخرى .

لعل أهم العوامل التي يستمد منها النظام قوته تكمن في مايجري في العراق من أعمال عنف يومية تضعه على فوهة حرب أهلية , ومن نافل القول إن مايحصل في العراق انعكس سلباً على مزاج غالبية الشارع السوري وآلية تفكيره (رغم أنها تعاني من العطالة المزمنة) , وهي آلية باتت تخشى مصيراً كالمصير العراقي , وان كانت البنيتين التاريخية والثقافية لبلاد الرافدين تقفان على النقيض من مثيلتيها في بلاد الشام . ومما لاشك فيه أن أحداث العراق جعلت جلّ السوريين يأنفون من الديموقراطية الأمريكية التي تساهم حمامات الدم العراقي ومعتقلات سجني أبو غريب وغوانتانامو في فضح زيفها وارتفاع رصيد لفظها من قبل السوريين.

أما العامل الثاني من عوامل قوة النظام يكمن في غياب البديل الحقيقي له , ولعل هذا العامل يفوق العامل الأول من حيث الأهمية . ومن المؤكد أن النظام السوري يدرك أن سرّ قوته الموضوعية كائن في غياب بديل عنه؛ أوليس هذا ماعبّر عنه مسؤول سوري رفيع المستوى بثقة وابتزاز واضحين في آن : " إما نحن وإما الفوضى" ؟ كما أننا لانأتي بجديد في حال قلنا إن المعارضة السورية ماتزال ضعيفة بحكم اعتبارات عديدة , والنظام لم (ولن) يفوّت فرصة كي يُبقي لها حواضن ضعفها,هذا مانقرأه في الاعتقالات التي تمت مؤخراً في دمشق(تحديداً في اعتقال دينمو الحراك الأستاذ ميشيل كيلو ورفاقه).

من جانب آخر لانكون قد تجنينا على المعارضة إذ قلنا:إن مايجمعها – أكثر من أي شيء آخر – هو تغيير رأس الهرم في النظام القائم , وهذا بحد ذاته نقطة ضعف! فكما يلحظ بعض المراقبين أن الكثير من المعارضة الداخلية لم يلتفت إلى قاعدة الهرم أو البنية التحتية المنتجة للسلطة , محاولاً البحث عن عوامل التخلف في بنيتها الثقافية , وهي عوامل يستحيل أن تنتج راهناً غير الذي نشهده .

على صعيد آخر نرى أن أغلب رموز المعارضة السورية في الداخل هم من الشيوخ الذين تخطو سن السبعين , وهم في تركيبتهم الثقافية الوجه الآخر للنظام , ويمكننا القول بثقة إن بعضهم يحمل إما عقلاً أصولياً إسلامياً أو عقلاً أصولياً قومياً . وكي لا أتهم بالتجني على القوميين المعارضين في سورية(أو بعضهم) من زاوية أصوليتهم , تفرض الأمانة أن نذكّر بالشبكة الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة والتي تم القبض على أعضائها منذ فترة قصيرة في لبنان , فأحد أعضائها المصابين , أثناء عملية القبض , يكون ابن أحد أعضاء المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي المعارض في سورية , والمضحك المبكي أن الناصري "المعارض" ,والد الإرهابي المصاب, كان يتلقى التهاني بإصابة ولده الطبيب "المجاهد" في صفوف ابن لادن؟!

في ما يخصّ معارضة الخارج , لانفضح سراً في قولنا أن لا قاعدة مجتمعية لها في الداخل السوري , حتى أنها لاتعرف شيئاً عن مشاكله وهمومه سوى ماتردده بعض الألسن الإعلامية في ما يتعلق بقانون الطوارئ وانتهاكات حقوق الإنسان وماشابه , بهذا المعنى لانجدها , شأنها شأن معارضة الداخل , تتحدث عن السيرورة التاريخية لتخلف المجتمع , وكأن استبداد النظام وفساده أتيا من فراغ(؟!) أو أتيا بانقلاب الثامن من آذار متكرسين بانقلاب الراحل حافظ الأسد؟! لن نستغرب هذا التجاهل, إذا ما علمنا أن الكثير من معارضي الخارج لم يستفيدوا من احتكاكهم بثقافة الغرب ومعايشتهم لها , فما تزال ثقافة الغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية هي البوصلة الموجهة لهم , وهي التي تحدد لهم طرائق تفكيرهم وآليات التغيير التي ينشدونها(لولا إحراج البعض لكنت ذكرت بضعة أمثلة من الموجودين في أمريكيا)..

يمكننا القول , ببساطة , أن معارضة الخارج هي مجموعة من الأثرياء السوريين يقطنون الولايات المتحدة الأمريكية وكندا , وفي أوقات فراغهم يمارسون "هواية" السياسة ؛ فعلى عهدة الراوي أن مصروف كلب (من أصل ياباني) لأحد "زعماء" الأحزاب المُعارضِة في الخارج , وهو متنفِّذ (المتنفِّذ هو المعارض وليس الكلب)داخل الإدارة الأمريكية , يفوق مصروف ثلاث أسر سورية شهرياً ! حتى أن صاحبنا المُعارض , كما نُمي إلى مسامعي , لايشتري وجبات الطعام لكلبه من أي سوبر ماركت متخصص بطعام الكلاب , مخافة أن يصاب بالكولسترول (طبعاً أنا لا أنكّت هنا) .

ومن عوامل قوة النظام كذلك هو غياب الطبقة الوسطى في سورية, وهو تغييب متعمّد سلطوياً (حسب رأي الكثير من المحللين), فمن الطبيعي أن الطبقة الوسطى هي حامل لواء التغيير في أي مجتمع كان , وفي أي منحى من مناحي الحياة , وما نشهده في سورية من قبل المعارضة الداخلية هو , في حقيقة الأمر, ليس أكثر من مجموعة فدائيين يملكون فائضاً من الغيرية على وطنهم ومجتمعهم (بمعزل عن اتفاقنا أو اختلافنا معهم جزئياً أو كلياً). وربطاً مع غياب الطبقة الوسطى في سورية , التي نشهد حضورها بقوة في بلدٍ كالسعودية مثلاً – بصفتها إحدى دول صناع القرار في المنطقة – إذ من المرجح أن تغيير النظام في سورية سينعكس سلباً على الأسرة المالكة في السعودية , بمعنى أن طبقتها الوسطى مع مثقفيها ستنشط مطالبة بالتغيير! بكلمة أخرى ليس تغيير النظام في سورية من صالح دولة كالسعودية , ولا حتى في صالح النظام المصري كذلك .

وإذا ماانتقلنا إلى صلب المعارضة السورية في الداخل, وبمنأى عن برنامجها الوطني , ثمة حقيقة لايمكن لأحدنا إنكارها , ألا وهي أن النظام والمعارضة كلاهما نتاج ثقافة واحدة .. ثقافة التراث الإسلامي الإقصائي منه , ولعلنا في غنى عن القول أن الديموقراطية هي ثقافة وسلوك يتبلوران في ضوء الممارسة والتجربة لابقرار حزبي موالٍ أو معارض. أكثر من ذلك , عاشت المعارضة السورية في ظل ظروف غير صحية طوال أربعين عاماً أو أكثر , مايعني أنها بالضرورة وبحكم الشروط غير الطبيعية التي فُرضت عليها تحمل في أحشائها أمراضاً غير طبيعية , لكنها لم تبدُ ظاهرة بوضوح للعيان بعدُ بسبب كونها معارضة وليست سلطة تحت المجهر . ولان السلطة والمعارضة نتاج ثقافة واحدة , نجد ذاك التنافس (الصامت) بينهما لاستقطاب الشارع الإسلامي وممالأته بطريقة منفرة تدعو للرثاء, ومن البديهي أن السلطة أوفر حظاً في مثل هذه الممالأة , ربما هذا مايفسر لنا تحول المشهد العام لمدينة مثل اللاذقية (قبل قرابة شهر مضى),المفترض أنها استنشقت رياح الحضارة الغربية (فضلاً عن أنها إحدى ورثة الخصوبة الفينيقية), إلى مدينة تشبه "قُم" الإيرانية أو "مكة" السعودية , فالشعارات والرايات الإسلامية المتناثرة في جنبات شوارعها وعلى واجهات بعض محلاتها كانت توهم الرائي أنه على أبواب غزوة كـ "مؤتة" أو "الخندق" , وأن رسلاً كالسيد المسيح أو سيدنا موسى هم رسل من الدرجة الثانية! وهي إشارة لايخفى مدلولها , ولاشك هي خطوة تنسجم مع شعار المرحلة التي يعيشها النظام السوري أي شعار "دولة الله حاميها" كبديل عن دولة "الصمود والتصدي".

عامل آخر أضفى الكثير من عوامل القوة للنظام السوري , يكمن في المستجدات الأخيرة التي طرأت على الداخل الإيراني وملفه النووي , وهو مستجد ,دون شك , خدم النظام السوري .. ترى هل هذا مايفسر لنا التصريحات الأخيرة لبعض مسؤولي الإدارة الأمريكية القائلة بأنهم لايريدون تغيير النظام السوري؟ وهل هذا مانلمسه في إعادة البعثة الدبلوماسية الأمريكية مؤخراً إلى دمشق ؟..
يمكننا هنا إجراء مقارنة بسيطة بين الموقف الأمريكي سابق الذكر مع الرغبة الإسرائيلية الملحة في بقاء النظام السوري (بالطبع بقائه ضعيفاً لايشكل تهديداً...), وهي رغبة عُبّر عنها مراراً من قبل مسؤولين إسرائليين في مرحلة من مراحل تحقيق القاضي ديتليف ميليس .

تحصيل حاصل , النظام السوري باق على المدى المنظور, حتى أن انشقاق السيد عبد الحليم خدام (الذي بدا للوهلة الأولى وكأنه زلزال) لم يضعفه أكثر مما جعل من السيد عبد الحليم مادة للتندر والسخرية في الشارع السوري, ولابأس من القول هنا , وللإنصاف , أن السيد خدّام مارس ضغوطه على بعض الصحف اللبنانية (شأنه شأن النظام الذي انشق عنه) بغية عدم نقده ونقد تاريخه (هل هذا جانب من جوانب ديموقراطية خدام الموعودة؟) . أما المعارضة بما فيها إعلان دمشق , ورغم أنها استطاعت كسر حاجز الصمت منتقلة بسورية من مملكة للصمت (حسب وصف المناضل المبدئي رياض الترك) إلى مملكة ضجيج , لكنه , مع الآسف , ضجيج (حتى الآن) يشبه طنين ذكور النحل لا أكثر ولا أقل.