قبل سنوات وبمناسبة مرور مئتي عام على (الثورة الفرنسية) 1789 التي قامت على المبادئ الإنسانية والقيم الكونية في الحقوق والحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية التي نادى بها (فكتور هوغو) وغيره من الكتاب والمفكرين الفرنسيين رواد عصر التنوير الأوروبي أمثال (روسو)، أبرزت جريدة ( لوموند) الفرنسية رسماً كاريكاتيريا يظهر (نابليون)، على عظمته، قزماً أمام عملاق الفكر والثقافة والأدب الفرنسي (فكتور هوغو). أراد اولرسام بهذه المناسبة لفت انتباه العالم الى عظمة دور رجال الفكر والثقافة في صناعة التاريخ ونهضة الشعوب وبناء الأمم، والذي هو أهم بكثير من دور الجنرالات وقواد الحملات العسكرية.

من التجربة الفرنسية وغيرها من تجارب (النهضة الأوروبية) يمكن لنا أن نستقرئ الأسباب الأساسية لإخفاق (سورية) ودول المشرق العربي والإسلامي عامة في إحداث (نهضة حقيقية) في مجتمعاتها. هذه الأسباب تعود بالدرجة الأولى الى تغييب الأفكار المستنيرة ولجم الثقافة وتهجينها عبر فرض الحصار على حركة الفكر الحر وقمع المثقفين والتضييق عليهم من قبل العسكر وجنرالات الأمن وتدجينهم على مقياس النظام الحاكم. في اطار سياسة التهجين والتدجين هذه، تقوم سلطات الأمن السورية من حين لآخر بحملة اعتقالات للمثقفين ونشطاء التغيير الديمقراطي والحراك الثقافي في سورية، آخرها جرت في أيار الماضي، طالت أكثر من عشرة ممن وضعوا وثيقة (اعلان بيروت ــ دمشق) أو وقعوا عليها، أبرزهم (ميشيل كيلو وأنور البني). ثمة تساؤلات كبيرة وكثيرة تركتها هذه الاعتقالات، في الشارع السوري ولدى مختلف الأوساط والنخب السياسية السورية، بخاصة وأنها جاءت في مرحلة تتزايد فيها الضغوط الخارجية على النظام السوري، وهي لم تطل شخصيات سورية ساهمت منذ البداية مع مجموعة المثقفين اللبنانيين في إنجاز وصياغة وثيقة (اعلان دمشق ــ بيروت)، في حين اعتقل من وقع عليها عبر البريد الإلكتروني. أول هذه التساؤلات: هل حقاً (اعلان دمشق ــ بيروت)، الذي يدعو الى تصحيح العلاقة المتأزمة بين سورية ولبنان، فيه ما يضعف الشعور القومي وينال من هيبة الدولة السورية وايقاظ النعرات العنصرية وغيرها من المخاطر المهددة لأمن الوطن السوري التي اتهم بها ممن اعتقل بسبب هذا الإعلان؟

جدير بالذكر أن هذه التهم عادة توجه لغالبية معتقلي الرأي في سورية. وهل حقاً أن (اعلان دمشق ــ بيروت)، وبما حمله من مطالب سياسية وبما تضمنه من مبادئ يمكن على أساسها إقامة علاقات متوازنة ومتكافئة بين سورية ولبنان، شكل اختراقاً مهماً وتجاوزاً خطراً للخطوط الحمر، وما أكثرها، في السياسة السورية استوجبت كل هذا الاستنفار الأمني السوري..؟ أم أن اعتقال هؤلاء وإن جاء تحت عنوان واحد له أسباب أخرى تتعلق بوضع كل معتقل لم يعلن عنها بعد، وربما لا علاقة لها بالإعلان المذكور، على سبيل المثال هناك في سورية، وأنا منهم، من يرجح أن اعتقال (ميشيل كيلو) جاء على خلفية مقاله ( نعوات سورية) نشر في جريدة (القدس العربي) قبل يومين من اعتقاله والتي شخص فيها، من وجهة نظره طبعاً، بعض مظاهر (الطائفية) في المجتمع السوري؟.

على أية حال، مهما تعددت أسباب الاعتقال السياسي، ومهما حاولت السلطات السورية تبرير الاعتقالات الأخيرة، انها تعد انتهاكاً جديداً لحرية الرأي والتعبير في سورية وتعدياً على حقوق الإنسان والمواطن التي ضمنها الدستور السوري. كما أن هذه (الاعتقالات)، الى جانب كونها تأتي ضمن سياسة تهجين الفكر وتدجين المثقفين، لها جذرها الإيديولوجي والعقائدي، حيث يقدم النظام خطابه على أساس انه (الحقيقة المطلقة) ورفض كل فكر أو خطاب آخر يتعارض مع ايديولوجيته وتخوين صاحبه ومعاقبته.

لا خلاف، على أن النظام السوري يمسك وبقوة بكل أشكال السلطة في بلاده، ويقف خلفه حزب كبير(حزب البعث) له أكثر من مليون ونصف المليون عضو، ومجموعة من الأحزاب الأخرى المتحالفة معه في اطار (الجبهة الوطنية التقدمية)، لكن عوضاً من أن تمنحه كل هذه القوة والسلطة المزيد من الثقة بالنفس وإطلاق الحريات السياسية والديمقراطية وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية حرة وديمقراطية يتنافس عليها كل مواطن سوري بغض النظر عن انتمائه الديني أو الحزبي والسياسي أو القومي، نجده يمارس العكس، إذ يزيد من درجة الضغط والحصار على نشاط المعارضة وعلى كل دوائر المجتمع السياسي والمدني. ثم ان حالات الاعتقال السياسي والرأي، توقع النظام في إشكال وتناقض واضحين مع نفسه، فهي (الاعتقالات)، بشكل أو بآخر، إقرار صريح من النظام بانعدام الحياة الديمقراطية والحريات السياسية في سورية، إذ من غير المعقول أن يقال عن نظام انه ديمقراطي وهو يلاحق ويعتقل مواطنيه لأسباب تتعلق بمواقفهم وآرائهم السياسية، فمن أهم شروط الديمقراطية وجود معارضة تمارس حقوقها الديمقراطية وتعلن عن برنامجها السياسي بكل حرية هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية، في الوقت الذي يصر النظام على انكار وجود معارضة في سورية، تأتي حملات الاعتقال السياسي لتؤكد اعتراف النظام ليس بوجود معارضة فحسب، وإنما بوجود معارضة يخشاها النظام وتقلقه، ومن جهة ثالثة، أنها (الاعتقالات) تعكس بقدر معين أزمة النظام وعدم قدرته على مقاربة مشكلات الواقع السوري بعقلية مدنية منفتحة بعيداً عن العقلية الأمنية الاقصائية، وعجزه عن إيجاد حلول معقولة ومناسبة لأزمات سورية، تخفف من تصاعد ونمو حالات الاحتقان السياسي والقومي والاجتماعي، بخاصة مع اتساع دائرة الحرمان والفقر والعوز والبطالة التي بدأت تطال شرائح كبيرة من السوريين وتمتد الى خريجي المعاهد والجامعات. فهذه جميعها، الى جانب الضغط الممارس على المجتمع، تعد من الأسباب الأساسية للتوتر والتطرف. وهنا يحضرني قول لـ (ميشيل كيلو)- فك الله أسره- قاله في برنامج حواري حول الواقع السياسي الراهن في المنطقة قبل اشهر عبر إحدى الفضائيات العربية: “أخشى أن نتحول جميعنا الى إرهابيين”، ربما ميشيل يدفع اليوم ثمن صراحته وقلقه على وطنه وحبه الزائد له.