تغير المشهد الفلسطيني الذي كان يبدو فيه شعب فلسطين معبأ لانتزاع استقلاله وبناء مستقبله في وحدة متراصّة وانسجام وتلاحم، مُصوِّبا للعدو الضربات، وباذلا من أجل تحرير أرضه ضروب التضحيات، ومعطيا صورة رائعة عن نكران الذات، وضاربا المثل بصمود وعزم فصائله، تخشاه “إسرائيل” وتحسُب لردّ فعله ألف حساب.

تحوّل هذا المشهد الرائع إلى مشهد بئيس تبدو فيه الصور قاتمة، وقسمات الوجوه مُكفهرّة، فصائله يطحن بعضها بعضا، وكلّ طرف ينشر غسيل الآخر على شاشات الإعلام السمعي البصري، وكأنما نسُوا ما يسقط يوميا تحت ضربات الجيش “الإسرائيلي” من ضحايا فلسطين الشهيدة التي شنت “إسرائيل” الحرب عليها منذ أزيد من نصف قرن مستهدفة إبادة شعبها بالكامل بما يجعل الحرب تنتهي بنهاية المقاتلين.

نحن اليوم أمام مشهد فلسطيني مُروِّع. يُخرِّب فيه الشعب الفلسطيني كيانه بيده وأيدي “الإسرائيليين”. وكأنما التحرير تحقق والاستقلال أنجز وأصبحت سلطاته تتنازع على غنائم الحكم. والحاكم الحقيقي هو “إسرائيل”، وليس السلطة الفلسطينية، ولا حكومة حماس، ولا قادة الفصائل الفلسطينية المسلحة التي أصبح السلاح لا يعمل في يدها لأنه كما قال ابن الوردي “السيف لا يعمل إلا في يد البطل”.

أغمِد السلاح الذي كان يحمله الجندي المجهول البطل المقاوم للاحتلال وأشهر في صدر الأخ والصديق والقريب. واختلطت الأوراق، والتبست المواقف وضاقت المسالك، ووُضِع السؤال ولا جواب: لماذا تحول المشهد الفلسطيني من صورة تصفية الحساب مع الاستعمار والاحتلال إلى تصفية كل فصيلة حسابها مع الأخرى؟ هل وصل التنازع على السلطة الموهومة إلى حد الاقتتال الذاتي المُنذر بحرب أهلية اعتدنا أنها تبدأ بين العرب ولا تعرف النهاية كما وقع في لبنان، وكما تعيشه السودان والصومال؟

إلى ما يقرب من بضعة أسابيع كان الرئيس الفلسطيني يشكو مما سماه “الفلتان الأمني” المحدود ويعد بالقضاء عليه. فماذا يمكن أن يُسمَّى إسقاط الضحايا الفلسطينيين بسلاح فتح وحماس والكتائب والجهاد، وسلطة الأمن الوقائي التابعة للرئيس، وسلطة حركة فتح التي انتشرت أخيرا المئات من عناصرها في جنين لحفظ النظام، والتي تحمل اسم قوة الإسناد إشارة إلى أنها تحمل نفس الاسم الذي تحمله القوة التابعة لوزير داخلية حكومة حماس سعيد صيام. وكل سلطة تقول عن نظيرتها إنها خارجة عن القانون. ولم تعترف أية فصيلة بشرعية قوة أختها. قال وزير المالية عمر عبد الرزاق في تصريح نقلته عنه وكالة الصحافة الفرنسية: “إن القوة العسكرية التي أذن بنشرها في جنين الرئيس محمود عباس في نطاق قوة حرس الرئاسة غير قانونية”. وقال الرئيس محمود عباس: “إن القوة العسكرية التابعة لوزارة الداخلية في حكومة حماس والتي نشرتها في جزء من قطاع غزة غير قانونية”. وتعمل فوق أراضي فلسطين قوات مسلحة أخرى يُطلق عليها نعت المجهولة أشير إليها (بالبناء للمجهول)، وقيل إنها كانت وراء محاولة اغتيال أحد قادة كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس بمدينة غزة. وقال عن ذلك أبو عبيدة الناطق الإعلامي باسم كتائب القسام: “إنه لا يستبعد أن يكون عملاء جيش الاحتلال هم وراء عملية محاولة الاغتيال”. هكذا يختلط الحابل بالنابل، وتنظم الفوضى السائدة في فلسطين بهذا الشكل الرديء.

تقول حكومة حماس إنها هي المسؤولة المختصة باسْتِتباب الأمن، وتنكر على الرئيس محمود عباس شطط تقوية حرسه إلى حد تحويلها إلى جيش نظامي. ويقول الرئيس إن القانون الأساسي (الدستور) خول للرئيس الفلسطيني صلاحيات منها حفظ الأمن، وهو لا يمارس إلا صلاحياته الدستورية.
وكان المفروض أن تمتد جلسات الحوار الفلسطيني تحت رئاسة الرئيس الفلسطيني ورئيس المجلس التشريعي، فلم تطل وانسحب منها ممثلو حماس. وأشهر الرئيس في وجه حماس سلاح الاستفتاء الشعبي على وثيقة الوفاق الوطني التي صدرت عن الأسرى في سجون “إسرائيل” وقبلها وزكاها الرئيس وتحفظ عليها ممثلو حماس وطعنوا في قانونية الاستفتاء وقالوا لا صلاحية يملكها الرئيس لطرحها طبقا لنص القانون الأساسي (الدستور). ولا شيء في هذا الدستور يمنع على الرئيس طرح الاستفتاء على وثيقة صادرة عن المعتقلين الذين يتمتعون بشعبية كبرى. ويرى الرئيس أنه لا مخرج من أزمة تعثر الحوار إلا بطرح الاستفتاء الذي إن نال أغلبية الاقتراع أصبح مُلزما لجميع الفرقاء الفلسطينيين وعلى حكومة حماس أن تستقيل. كما يصبح واجبا إجراء انتخابات تشريعية تنبثق عنها حكومة وحدة وطنية تعترف ب “إسرائيل” وتسعى إلى التفاوض معها. وإن كانت الأخرى ورفض الشعب الوثيقة كان لزاما أن يستقيل الرئيس وتجري انتخابات رئاسية جديدة لا شيء في القانون الأساسي ما يمنع الرئيس أبو مازن من ترشيح نفسه فيها. وسيفوز فيها بولاية جديدة بكل تأكيد.

وأخيرا أعلنت خمس فصائل من حركات المقاومة وفي طليعتها حماس رفضها للاستفتاء وهددت بمقاومته بجميع الوسائل وتحدّتْ بالتهديد حركة فتح وقالت: “على من يدبرون هذا الاستفتاء أن يعلموا أننا سنستعمل جميع الوسائل لإحباط الاستفتاء” وزاد الناطق باسم حماس يقول: “وعلى من يسمع هذا التصريح أن يقرأ ما بين السطور” (كذا) فماذا تحت السطور؟

هكذا دخلت القضية الفلسطينية في منعطف صعب، أصبح طريقه أشبه بصراط يوم القيامة الذي قيل عنه إنه أرقّ من شعرة وأمضى من سيف، فيا للهول!

ينبغي لحماس أن تفكر ملِيّا للخروج من المأزق بعد أن كان من واجبها أن تدرس بعناية تداعيات تحولها من حركة مقاومة إلى منظمة سياسية انخرطت أغلبية الشعب في برنامجها وأخذت الحكم بطريقة ديمقراطية، وتبين أن هذا الطريق صعب التنفيذ بل محفوف بالمكاره. وقد يكون من الحكمة والعقلانية بعد دخول تجربة حماس في مأزقها أن تتأسس حكومة وحدة وطنية بمشاركة حماس وقيادة فتح وتوجيهات أبو مازن تعلن عن استعدادها للتفاوض مع “إسرائيل” على أساس قرارات الشرعية الأممية لترْبك “أولمرت” الذي يتحرق للسطو على أول فرصة ليعلن أنه لا يلقى شريكا له في صنع السلام.

لا ينبغي أن يقف الفرقاء الفلسطينيون متفرجين على عملية الحصار الخانق الذي ضُرب بقسوة على فلسطين ودبرته “إسرائيل” بمساعدة الأقطاب الكبار أعضاء الرباعية. وفي الأزمات السياسية لا مناص للقيادات المستنيرة من البحث عن الحلول لتجاوز الأزمات. والبداية دائما من مغالبة النفس ونكران الذات والترفع عن الحسابات التي يطمح فيها كل طرف إلى أن يكون هو الغالب وخصمه المغلوب. والغالب في الأزمات الوطنية السياسية لا يكون إلا المترفع عن الحسابات الضيقة، والقادر على اتخاذ القرار الحاسم ولو كان مُرّا في الوقت المناسب.

وفي معركة تدور بين إخوة لا تختلف اجتهاداتهم السياسية إلا على الأفضل والأجدى لا يوجد غالب ومغلوب، بل كل طرف لا يكون في الحقيقة إلا غالبا ومغلوبا في آن واحد، إذ تلتقي فيها الأطراف على تنازلات مشتركة. “وذكرْ فإن الذكرى تنفع المؤمنين”.