مع انتهاء ظاهرة أبو مصعب الزرقاوي كشخص و”رمز”، فإنه ليس هناك ما يحمل على الاعتقاد بعد أن الزرقاوي كحالة ونمط قد اختفى. فقد ارتكب هذا الشخص ما ارتكبه، تحت شعار مقاومة المحتلين (ومن ورائهم غير المسلمين)، ويكمن تعقيد حالته في أنه قارع القوة الأمريكية بالفعل والحق بها خسائر موصوفة، مما جعل منه العدو رقم واحد لهم، بيد أنه في الوقت نفسه ناصب أكثر من نصف الشعب العراقي العداء تحت مسميات محاربة الكفر والطواغيت والطوائف الرافضة، واستسهل استباحة دماء الابرياء لأغراض مريضة مثل القاء الرعب في النفوس، بل إنه ناصب مفهوم الدولة العداء فحمل على فكرة الدولة العصرية واعتبر الانتخابات سلاحاً شيطانياً يتعين كسره، وعلى الجملة فقد شن الرجل حرباً لا هوادة فيها، على مظاهر الحياة الحديثة والمدنية، جنباً الى جنب مع مقاومته للأمريكيين والبريطانيين !. وبما أن الأهداف المدنية أكثر سهولة من الأهداف العسكرية، فقد دأب طيلة ثلاث سنوات على تفجير السيارات المفخخة بصورة شبه يومية في الأسواق، إضافة الى فنون أخرى من استهداف دور العبادة والصحفيين والأجانب بصفتهم أجانب، حتى لو كانوا أصدقاء للعرب والمسلمين، كحال العاملين في الهيئات الإنسانية الدولية.

أن انتهاء الزرقاوي كظاهرة وحالة ونمط اعتقادي وسلوكي، مرهونة حتى بعد وفاته كشخص، بإزالة الأسباب والبواعث التي أدت إلى ظهورها. وليس المقصود هنا هو تحقيق تحول نوعي في محددات العقلية العربية “التقليدية”، إذ ان إنجاز هذا التحول بصورة تامة ليس بيد أحد أو جهة، ولا يتعلق بإصدار قرار ما، فهو يتطلب تراكماً تاريخيا،غير أن المقصود هو تحقيق أهداف أكثر تواضعاً، من قبيل إحياء وتفعيل إرادة المواجهة مع الخصوم والأعداء، حتى لو اتخذت المواجهة طابعاً سياسياً لا عسكرياً، شريطة أن لا يبقى الأمر محصوراً، في إطار إطلاق الشعارات وتدبيج الخطابات والقصف الإعلامي !.

وعلى سبيل المثال فإن الصين رغم قدراتها العسكرية الهائلة، لا تشن حرباً لاستعادة تايوان إلى الوطن الأم، لكنها وضعت سياسة ثابتة تقوم على اعتبار موقف أي دولة او جهة من هذه المسألة،هي المعيار في إثبات الصداقة أو العداء للصين، وهو ما أدى خلال بضعة عقود إلى عزل “جمهورية الصين الوطنية” وهو المسمى الرسمي لتايوان، بل أدى هذا الموقف الحازم والثابت إلى طرد تايوان من عضوية هيئة الأمم المتحدة، بما نزع عملياً عن هذه الدولة شرعيتها، وأضعفها استراتيجياً رغم أنها تتلقى دعماً موصولاً من الولايات المتحدة.

وهذا نموذج عن الإدارة الناجعة لصراع قومي، مما جعل أبناء الصين على قناعة تامة بأن عودة تايوان إلى البر الصيني، هي مسألة محسومة لا مساومة عليها، وأنها مسألة وقت ليس إلا. وإذا كان العرب لا يماثلون الصين في الموارد البشرية والقدرات العسكرية، إلا أنهم ومنذ انقضاء “آخر الحروب” قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، أبخسوا قدراتهم ومواردهم حقها، وأسهموا في تعظيم شأن الدولة العبرية، ولم يجعلوا من الحلول السلمية أداة لشن هجوم سياسي، واستنهاض الطاقات واجتذاب احترام العالم وتأييده ومحاصرة الطرف المعتدي، إلى أن انتهينا إلى وضع باتت فيه تل أبيب، تحاصر العرب وتشل إرادتهم، وتجاهر بسعيها إلى فرض الحلول عليهم، وإخضاعهم لقوة الأمر الواقع، مع عزل الحلقة الفلسطينية عن مجمل الصراع والعمل على تدميرها.

في مثل هذه الظروف، فإنه لا يغدو مستغرباً أن تنشأ ظواهر متطرفة كظاهرة الزرقاوي، وأن يجري استخدام الدين لممارسة العنف المشروع وغير المشروع، وأن يكون هناك قدر من التعاطف الشعبي مع مثل هذه الظواهر، ما دام الجرح مفتوحاً، وما دام الخلل يفعل فعله في إدارة الصراع ولمصلحة الأعداء ومن يواليهم، ورغم أن الزرقاوي قد نشط في العراق تحديداً قبل أن يمد نشاطه الى الأردن، الا أنه استخدم الصراع العربي - “الاسرائيلي” (الاسلامي - اليهودي حسب تعبيره) كخلفية ومرجعية ومنطلق لإدارة صراعه مع الأمريكيين، وباعتبار هؤلاء حلفاء، وهم كذلك للاحتلال “الاسرائيلي”. ومن المفارقات اننا نخاطب الغرب بمثل هذا المنطق الصائب، الذي يربط بين نشوء التطرف في العالم العربي والاسلامي، وبين واقع الاحتلال واستمراره وتوسعه، وما يثيره ذلك من نقمة عميقة وسخط واسع، ثم من مقاومة مشروعة وعنف غير مشروع، غير أننا لا نفعل من جانبنا الكثير ولا حتى القليل، لوضع حد لهذا الخلل الخطير، مؤملين أن يتطوع سوانا ويقوم غيرنا بمعالجة ما نشكو منه، من انتقاص للحقوق ومن تعديات على الأمن الجماعي العربي، ومن تدليس الطرف الآخر الذي يستخدم الدعاوى السلمية لتحقيق المزيد من التوسع وإدامة الاحتلال.

ان لسان الحال هنا وهناك يتساءل: وماذا بعد، ألن تكون هناك نهاية للاحتلال في فلسطين والعراق، كما انتهى الزرقاوي وغيره؟