لا يرمي <جمهور ميليس> في لبنان القاضي برامرتز بأي تهمة، إلا أن هذا الجمهور يتبرّم في خلده من تباطؤ التحقيق، ويحن لليوم الذي كان فيه يعاتب ميليس نفسه لأنه ذكر أسماء من الدرجة الثانية، وأغفل أسماء من الدرجة الأولى من بعد ذكرها.

أما <جمهور برامرتز>، الذي يعرف <باللقاء الوطني> حالياً، فهو لا يكتفي بتظهير الاختلاف بين أسلوب عمل برامرتز وأسلوب عمل ميليس. انه ينصب برامرتز نقيضاً لميليس في كل شيء، حتى في تفاصيل الحياة. هو الزاهد المنكب على إعداد ملفه، والآخر هو المحب للبهرجة واليخوت. برامرتز عندهم يمتاز بالحرفية في مقابل ميليس امتهن التدليس والافتراء. برامرتز عندهم لا يحقق في جريمة اغتيال رفيق الحريري. انه يحقق في <الجريمة> التي ارتكبها ديتليف ميليس عندما كان يتلاعب بالتسريبات، أو يوم وضع تقريره.

بين الجمهورين، ومن تقرير الى آخر، تصبح مشروعة معاودة الاستفهام عمّا جرى قبل شهور، فعاد ميليس الى حضن زوجته وجاء برامرتز لينال التعاون السوري؟ بالتأكيد ليست الأمور تفسّر على هوى الجماعات الموالية لسوريا التي اعتبرت أن ميليس فشل بنتيجة افتضاح <الشهود الزور>. إلا أن الأمور ليست تفسّر أيضاً بالتداول الهادئ والسوي جداً للملف بين قاض وآخر، على النحو الذي تروّج له قنوات الأكثرية البرلمانية والحكومية. لقد رحل ميليس لأنه توصل الى <الحقيقة> فعلاً، بسرعة أكثر من اللازم، وبفرقعة أكثر مما كان ينبغي. نحي لأن <الحقيقة> التي توصل اليها لم تكن من النوع الذي يمكنه حتى أن يتنازل فيه عن استجواب مسؤولين سوريين في المونتيفردي، فيأنس اليهم في فيينا. كانت <الحقيقة> التي توصل اليها من النوع الذي يقضي رأساً بتغيير نظام من الأنظمة، كما لو أن نتيجة التحقيق تعني مباشرة الخروج عن مهمة التحقيق. فاته أن تغيير نظام من الأنظمة يقتضي سريان معادلات أخرى في هذه المنطقة من العالم.

ليس يعني ذلك بأن المرجعيات الدولية قد جاءت بدل ميليس بشخص يسكت عن <الحقيقة>، وانما بشخص أكثر تكيفاً مع ضرورات تباطؤ هذه الحقيقة، وهو تباطؤ تكمن خطورته في اثنتين: انه يسمح لقوى الممانعة والكيد والارهاب، من جهة أولى، بأن تستبد مجدداً بالساحة اللبنانية، كما أنه يأسر قوى الاستقلال الخديج والديموقراطية الرثة ضمن قوى 14 آذار لحساب حالة انتظارية مفرطة في ما عنى التحقيق الدولي، اذ بدت حال هذه القوى مثل جماعة <شهود يهوه> التي تعين نهاية العالم بالساعة والدقيقة، ثم يخيب انتظارها، فتنتقل مباشرة لتعيين يوم آخر للنهاية المرتقبة. هكذا تصرفت قوى 14 آذار حيال كل من إنهاء مفاعيل التمديد الأرعن وارتقاب نتائج لجنة التحقيق الدولية.

يمكن اذاً تحبير أكثر من عنوان اعتراضي على قوى 14 آذار بسبب مغالاتها في الثأرية، أو لجهة مكابرتها على منطق التسوية الداخلية، أو لجهة دأبها على السياسات الاقتصادية والاجتماعية المجحفة بحق جماهير 14 آذار قبل سواها. بيد أنه تستحيل الافادة من هذه العناوين دون الاقرار الواضح بما حققته دينامية 14 آذار نفسها، من <انتفاضة الاستقلال>، الى الانسحاب السوري كحدث تاريخي، الى اعتقال الجنرالات الأربعة، وقد وصفهم تقرير برامرتز الأخير <بالمشتبه في كونهم أعضاء في مجموعات إرهابية>، الى تهاوي المحرّمات، رغم أنها محرمات تهاوت لصالح مزيد من التشنج المذهبي.

اذا ما احتسبنا ما لدينامية 14 آذار وما عليها يصبح بيّنا أننا أمام لحظة مفصلية جديدة بالنسبة الى هذه القوى، ذلك أنها مطالبة في العام الجديد من التحقيق الدولي، بأن تتمكن من العدول عن الثأرية والانتظارية المهلكة، لصالح الربط بين النضال من أجل قيام <محكمة دولية> وبين النجاح في التعاطي مع الآخرين <كأم للصبي> على الساحة اللبنانية، أي كتحالف راشد لا يبادر الى ممارسات وسياسات تقربنا من مناخات <الحرب الأهلية>.

أما <الممانعة>، فإنها دون ريب، تدرك تماماً بأن برامرتز، ورغم مغايرته إيقاع عمل اللجنة سابقاً، فإنه لن يوجه التهمة لا الى <الأصولية> ولا الى <الصهيونية>. التهمة تلبس <الممانعة> من ألفها الى يائها.

<أصدقاء برامرتز> يغتبطون لأنه مضطر لأن يغازل مواقعهم. يغتبطون لأنهم ينتزعون منه إقراراً بالتعاون السوري، أو لأنه أعاد الأمور الى أحجية <من فوق الأرض أو من تحت الأرض>. انهم يفضلون بطبيعتهم، السم المعسول على السم الفتاك بشكل فوري. السم المعسول يمنحهم الوقت. والوقت يساوي عندهم فرصاً بعدد الدقائق، فرصاً لأجل تغيير <معالم الجريمة>، ليس في ساحة ارتكابها بالمعنى الأضيق، كما حدث بعيد اغتيال الحريري، وانما تغيير معالم الجريمة على الساحة اللبنانية ككل من خلال تغيير معالم هذه الساحة، وإنكار حق اللبنانيين في معرفة الحقيقة بعد مضي كل هذا الوقت، أو بسبب من الكلفة المالية للمحكمة الدولية كما تنطح للقول أحدهم، حتى اذا لم تنفع كل هذه الاحابيل، وكل المناورات في الشارع، كانت العودة مجدداً لألعاب أمنية من الفئة الممتنعة في الشهور الأخيرة.