من أجل سوريا ولبنان والسوريين واللبنانيين، لا بدّ من العودة الى بعض العقلانية التي توفّر على الشعبين والبلدين مصائب كثيرة. إنّها مصائب يمكن أن تتسبب بها التعقيدات الإقليمية التي يبدو واضحاً أن النظام السوري عاجز عن التعاطي معها بما يتفق والتغييرات التي شهدتها المنطقة والعالم.

مرّة أخرى، يبدو مفيداً تذكير القيّمين على النظام في دمشق أن برلين الغربية انتصرت على برلين الشرقية وليس العكس وأن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية انتصرتا في الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي والمنظومة التي كانت تابعة له وأن الأتحاد السوفياتي هو الذي انهار، وكان بين أسباب انهياره النظام الأقتصادي الذي اعتمده والذي جعل منه قوّة عسكرية عملاقة تقف على رجلين هزيلتين.

في هذه الأيّام التي يُعاد فيها رسم خريطة الشرق الأوسط، على غرار ما حصل في العشرينات من القرن الماضي، يبدو مفيداً استعادة بعض الأحداث المهمة التي مرّ فيها الشرق الأوسط بما في ذلك الأسباب التي سمحت لسوريا بأن تكون موجودة عسكرياً في لبنان. في مقدّم هذه الأحداث الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان وهو وجود أخلّ بالمعادلة اللبنانية. ومما لا شكّ فيه أن النظام السوري لعب دوراً أساسياً في الوصول الى هذا الخلل بغية الاستفادة منه. لو لم يكن الأمر على هذا النحو، لما كانت السلطات السورية تكفّلت بنقل الفدائيين الفلسطينيين الى الأراضي اللبنانية بعد أحداث أيلول 1970 في الأردن. وفي هذا المجال، يقول أحد أبرز القادة العسكريين الأردنيين في تلك الفترة، أن السوريين كانوا يرمون المقاتلين الفلسطينيين الذين كان الأردن يبعدهم الى خارج حدوده في اتجاه لبنان. لم يكن ذلك القائد العسكري شخصاً مجهولاً لا علاقة له بالسياسة، بل كان من أبرز الضباط الأردنيين في تلك المرحلة وفي مراحل لاحقة. قال هذا الرجل بالحرف الواحد إنّ الشاحنات السورية كانت تنقل المقاتلين الفلسطينيين الى الأراضي اللبنانية مباشرة. لم يكن مسموحاً لهؤلاء تمضية ولو ليلة واحدة في الأراضي السورية. هل يمكن الحديث منذ تلك الأيام عن نيات سورية بريئة حيال لبنان، أم انّ المطلوب كان منذ تلك الفترة ايجاد خلل في التركيبة اللبنانية بغية اختراقها سورياً؟

تلك مرحلة انقضت. انها جزء من التاريخ، والمهم ان يكون هناك وعي لدى النظام السوري بأن تلك المرحلة تنتمي الى التاريخ وأن ليس في الإمكان استعادتها على الرغم من أنّ "حزب الله" على استعداد للعب الدور الذي كان يؤديه المقاتلون الفلسطينيون في تلك المرحلة من تاريخ لبنان. إنّها مرحلة كان فيها الشيعة في جنوب لبنان في مواجهة مباشرة مع المنظمات الفلسطينية التي استباحت ارضهم وقراهم وجعلتهم ينزحون الى مناطق البؤس بما فيها الضاحية الجنوبية لبيروت.

المؤسف أن النظام السوري لا يزال يعتقد انّ في أستطاعته الاستفادة من الورقة التي اسمها جنوب لبنان لاستعادة موقعه الأقليمي. أنّه يعتقد بكلّ بساطة أن "حزب الله" قادر على لعب الدور الذي كانت تلعبه المنظمات الفلسطينية أكان ذلك في الجنوب أو في مناطق أخرى من لبنان بما في ذلك بيروت التي كانت رهينة المنظمات الفلسطينية في مرحلة ما وصارت الآن رهينة لـ"حزب الله". لو لم يكن الأمر كذلك، كيف يمكن إذاً تفسير العراضة التي قدّمها الحزب عن سابق تصور وتصميم مساء الخميس الواقع في الأول من حزيران ـ الجاري؟

مثل هذه التصرّفات لا تصب في مصلحة سوريا، كما لا يمكن أن تصبّ في مصلحة لبنان. على النظام السوري التنبه جيّداً الى مثل هذا الأمر الذي لا بدّ أن يجلب الخراب على البلدين. هل في استطاعة النظام في دمشق فهم هذه المعادلة وأستيعابها، أم أنّه لا يزال يعيش في السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي؟

هناك مرحلة انتهت. ومع انتهاء هذه المرحلة، لا مفرّ من أن يفهم النظام السوري أن اللعبة القديمة انتهت وأنّ استخدام "حزب الله" بديلاً من المنظمات الفلسطينية لتبرير عودته الى لبنان ليس وارداً. يستطيع "حزب الله" ذو المرجعية الإيرانية أوّلا وأخيراً التسبب بأضرار كبيرة للبنان ولأبناء الطائفة الشيعية الكريمة أوّلاً. لكن الحزب لن يستطيع أعادة القوّات السورية الى لبنان. هذه المرحلة جزء من الماضي القريب الذي لن يتكرر. في النهاية، دخل السوريون الى لبنان بقرار أميركي، وخرجوا منه بقرار أميركي. "حزب الله" لن يتمكّن من لعب دور المنظمات الفلسطينية التي جاءت بالقوّات السورية الى لبنان. يستطيع الحزب تخريب بيروت ولبنان. لكن هل ذلك سيفيد سوريا أو لبنان؟ هل يمكن أن يستفيد من التخريب أحد غير إسرائيل؟