ميشال شماس

اتسعت دائرة النقاش والجدل حول مضمون إعلان دمشق بيروت بين مؤيد ومعارض، خاصة بعد توقيف عددٍ من المثقفين السوريين على خلفية التوقيع عليه، حتى وصل الأمر بالبعض إلى تخوين الموقعين عليه واتهامهم بالعمالة والتحريض على اعتقالهم، واعتبار فعل الاعتقال ليس حقاً مشروعاً ومباحاً وحسب، بل واعتباره واجباً مفروضاً وعلى السلطة الالتزام بهذا الواجب، وإلا سوف تكون في موضع الاتهام بالتقصير في ممارسة حقوقها وواجباتها.

وبدلاً من السعي لإطلاق سراح المعتقلين كمقدمة وأرضية لتهدئة الأجواء، ومعالجة هذا الأمر من خلال حوار عقلاني جدي ومنفتح ومتسامح، وصولاً إلى طي ملف الاعتقال السياسي وإلغائه نهائياً، سعت بعض القوى الداخلية والخارجية ومازالت تسعى إلى صب المزيد من الزيت على النار، التي إن بقيت مشتعلة فلن يكون هناك أحد بمنأى عنها، حتى تلك القوى التي تصر على التهويش والتهويل والتخوين والتحريض لإبقاء الأجواء مكهربة.

ويأتي في مقدمة تلك القوى حركة الشعب الناصرية في لبنان ورئيسها نجاح واكيم الذي تجرأ وتطاول على مثقفينا حين أعلن مؤخراً في مهرجان للقومي السوري في لبنان" أن سورية اعتقلت من خان الوطن" هكذا بكل ببساطة وبلا أي حرج وقبل أن ينتهي القضاء السوري من تحقيقاته في قضية المعتقلين، أصدر "سعادة النائب السابق" حكماً نهائياً بالخيانة على المثقفين، وهو المدرك قبل غيره بصفته محامياً أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. فكيف إذا تم الاعتقال على خلفية إبداء رأي أو وجهة نظر، في مسألة تهم الجميع؟

بينما المكتب السياسي "للقومين السوريين الجدد" لم يكتف في بيانه الذي أصدره من دمشق بالتناغم مع تصريحات واكيم في تخوين المثقفين واتهامهم بالعمالة لأميركا والصهيونية، بل ذهب أبعد من ذلك حين أثنى على اعتقال هؤلاء المثقفين معتبراً "أن اعتقالهم ليس حقاً للسلطة وحسب، بل وواجباً عليها"، وقد ذكرني هذا الموقف للقوميين الجدد، بموقفهم المشجع للاعتداء الذي تعرض له مجموعة من الشباب السوري الذين اعتصموا بطريقة حضارية وسلمية أمام القصر العدلي بدمشق في التاسع من آذار الماضي احتجاجاً على استمرار فرض حالة الطوارئ. ووصفهم في حينها هؤلاء الشباب بأنهم يهود الداخل وحرضوا على اعتقالهم وتطهير البلاد منهم.ونحمد الله على أن السلطة ليست بيد المكتب السياسي للقوميين السوريين الجدد وإلا كان مصيرنا كمصير من اتُهِموا باغتيالهم.

وقد قوبلت تلك المواقف والتصريحات باستهجان واستنكار كبيرين لدى فئات واسعة من الشعب السوري، وخاصة بين القوميين الذين نعتز بوطنيتهم واحترامهم للأخر، ورفضهم التحالف مع بعض الذين ساهموا بالفساد والإفساد ونهب المال العام كشرط للفوز بمنصب هنا أومنصب هناك، ولم ينسوا أيضاً أن بعض هؤلاء المثقفين قد دافعوا عن القوميين عندما تعرضوا للبطش والاضطهاد، والبعض منهم لم يعاصر ذلك، إلا أنهم أدانوه ورفضوه عندما عرفوا به.

فإذا كنا كأفراد وأحزاب ودولة ننتقد كغيرنا سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى تكريس هيمنة القطب الواحد على العالم تأكيداً لمبدأ أن العالم لايمكن أن يسير بنظام القطب الواحد، بل بأقطاب وأنظمة متعددة، فإن هذا الأمر ينطبق أيضاً على الدولة الواحدة بأفرادها وأحزابها وهيئاتها التي لايمكن أن تسير بنظام يقوم على رأي واحد واستبعاد الرأي الآخر، لأن من شأن ذلك أن يفسح المجال لهيمنة قوى الفساد على حساب قوى التقدم.

وإذا كانت الأوطان لاتُبنى بالاستبداد والإلغاء والإقصاء، فإنها أيضاً لا ولن تُبنى بالتخوين والعمالة، إنما تُبنى بتنوع الآراء واختلافها، فإذا كنا كأشخاص لانستطيع معرفة أخطائنا إلا من خلال رأي الآخرين فينا، فكذلك أيضاً لن تستطيع السلطة الوقوف على أخطائها والتعرف عليها، إلا من خلال وجود معارضة ومؤسسات المجتمع المدني وإعلام حر، تستطيع أن تكشف الأخطاء التي تقع فيها السلطة، وتسلط الضوء عليها، وما تطرحه أيضاً من رؤى وبرامج قد تختلف كلياً أو جزئياً عن رؤية السلطة وطريقتها في إدارة مؤسسات الدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي، كل ذلك في إطار منافسة شريفة للوصول إلى أفضل الطرق وأنسبها لتحصين الوطن ضد الأخطار التي تتهدده، وقيادته نحو مزيد من التقدم والتطور والرفاهية.

فالأوطان تسمو وترتقي، كلما تمتع أبناؤها بقدر واسع من الحرية والكرامة والعيش الكريم والمشاركة الحقيقية في صياغة وإقرار يتعلق بمختلف شؤونهم السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية..على اعتبار أن المواطن الحر الكريم هو الذي يستطيع بناء دولةً سيدةً حرةً مستقلةً، وهو القادر في النهاية على حماية بلاده والدفاع عنها ضد أي خطر يتهددها ومهما عظم هذا الخطر.

ولا يسعني في النهاية إلا أن أردد مع كاتبنا الكبير حسن م. يوسف إن" خلافات الحبر يجب أن تحسم على الورق " إذ ليس أمامنا من طريق نسلكه إلا طريق الحوار العقلاني والمنفتح والمتسامح ووضع الرأي الآخر نهائياً موضع النقاش، وليس موضع الاعتقال والتخوين والعمالة.وآن لنا أن نتخلص من هذه العقلية الاتهامية الإلغائية التي ألحقت بنا أشد الضرر وأفدح الخسائر.

فالوطن كالبستان لن يكون جميلاً إلا إذا تفتحت فيه الزهور والورود ونشرت رائحتها الذكية، حتى تلك الزهور التي ليس لها رائحة فإن وجودها ضروري لإضفاء مزيد من تنوع الألوان في البستان.