د. فيصل القاسم

أثار مقالي الأخير الموسوم "انتهى التاريخ شئنا أم أبينا" ردود فعل غاضبة، وخاصة من بعض الإخوة القوميين والإسلاميين الذين وصفوا المقال بـ"الفاجعة". وقد اشتموا منه "رائحة أمريكية كريهة" حسب وصف أحدهم. ووصل الأمر ببعضهم إلى تخويني بطريقة مهذبة، لأنني، حسب رأيهم، أزايد على فوكاياما صاحب نظرية "نهاية التاريخ" التي تبشر بسيادة النموذج الغربي عالمياً في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة إلى أجل غير مسمى. وأتساءل هنا: هل مطلوب منا، كعرب ومسلمين، أن نعادي الغرب غريزياً بشكل أعمى "عمـّال على بطـّال"، كما لو كان كله شراً محضاً؟ لماذا يخلط الكثير منا بين الحضارة الغربية التي يتهافت الكثيرون على اقتباسها والتماهي معها وبين السياسات الغربية القذرة تجاهنا؟

ألم يقل الأديب المصري الشهير توفيق الحكيم منذ عشرات السنين:" خذوا ما في عقولهم واتركوا ما في قلوبهم"؟ لقد فصل الحكيم تماماً بين السياسة والتقدم الغربيين. وقد ميز بين التفوق الغربي المتمثل بالعقل النير والمعطاء والمتقدم على غيره، وبين القلب الغربي الذي قد يكون أحياناً مليئاً بالحقد والعنصرية والوحشية التي تتجلى في استعمار واضطهاد واستغلال الأمم والشعوب المغلوبة على أمرها، وتكريس العنف والانحلال الخلقي والسقوط القيمي. وهو أمر يجب أن ننتبه إليه في هذه الأوقات المحمومة التي وصلت فيها العلاقات مع الغرب إلى حد التصادم. وهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، التسليم للغرب أو الانصياع لسياساته أو الانسلاخ من جلودنا كي يرضى عنا. على العكس من ذلك، يجب أن نواجهه بكل ما أوتينا من قوة على الصعيد السياسي، وأن نعارضه أخلاقياً، وأن نسخّر كل طاقاتنا كي نقاومه عندما يغزونا عسكرياً أو يحاول إعادة استعمارنا. فكما ليس مطلوباً منا أن نخاصم الغرب بشكل أعمى علينا أيضاً أن لا نتقبله على كل علاته.

إن اعترافنا بتوقف التاريخ لصالح النموذج الغربي لردح قد يطول كثيراً لا يعني بأي حال من الأحوال أن نقبل بماديته الساحقة وتفسخه الاجتماعي وهمجيته العسكرية التي تتجلى في أبشع صورها في العراق وفلسطين. ولا يسع المرء إلا أن يقف إجلالاً وإكباراً لكل المقاومين الذين يتصدون للهمجية والبربرية والمادية الغربية المتوحشة في أصقاع مختلفة من العالم. بعبارة أخرى علينا التمييز في تعاملنا مع الغرب بين ما هو سياسي وبين ما هو، في بعض جوانبه، حضاري يمكن أن يفيدنا كثيراً ويساهم في انتشالنا من براثن التخلف.

فمهما كابرنا لانستطيع أن نغطي عين الشمس بغربال، فقد أرسى الغرب قواعد المستقبل العالمي الذي قد يمتد لأجيال عديدة دون منافسة تُذكر. قد يجادل البعض بأن النظام الليبرالي الرأسمالي الغربي واجه تحدياً منذ بدايته، وهو نفسه الذي أفرز النظام الشيوعي في القرن التاسع عشر كرد فعل على تغول الأول ولا إنسانيته. وهذا صحيح. لكن أين هو النظام الشيوعي الذي تصدى للنظام الغربي لحوالي سبعين عاماً؟ لقد انهار تماماً وراح يقلد النظام الرأسمالي ويزايد عليه. إذن العبرة ليست في التحدي والتصدي بل في الصمود، وهو ما لم يقدر عليه النظام الاشتراكي المنافس، لا سياسياً ولا ثقافياً ولا اقتصادياً، فحلت الشيوعية الأمريكية (العولمة) محل الشيوعية السوفييتية.

وقد يجادل آخر بأن الحضارة البابلية استمرت لأكثر من خمسة قرون ثم انهارت، وأن الحضارة الغربية مازالت حديثة العهد بمقاييس عمر الحضارات. وهذا أيضاً صحيح. لكن من الخطأ مقارنة الحضارة الغربية الحديثة بالحضارات القديمة لأسباب موضوعية وعلمية. فالحضارات القديمة التي عمّرت طويلاً لم تكن لديها مقومات الحضارة الغربية و إنجازاتها الرهيبة غير مسبوقة تاريخياً بالرغم من حداثة عهدها، فقد تطور الغرب خلال أقل من نصف قرن تكنولوجياً وعلمياً واقتصادياً وعسكرياً أكثر مما تطور العالم على مدى قرون. وبينما اندثرت الحضارة البابلية دون أن تترك وراءها سوى بعض الآثار، فإن الحضارة الغربية، في حال خسر الغرب قيادة العالم وتفوقه العام، لن تصبح حضارته تاريخاً، بل ستبقى قي صلب الحضارات اللاحقة بما أنجزته من معجزات علمية وتكنولوجية وحتى ثقافية. هل من السهل إعادة عقارب العولمة، أو بالأحرى التغريب، إلى الوراء بعد أن نجح الغرب في قولبة العالم على النمط الغربي في الكثير من المجالات؟

هل هناك لغة تستطيع منافسة اللغة الانجليزية على المدى المنظور حتى لو حلت الصين محل أمريكا؟ ألم تصبح لغة العالم بامتياز؟ ألم يصبح الزي الغربي مثلاً هو السائد عالمياً، لا بل حل محل معظم الأزياء الوطنية من أقصى العالم إلى أقصاه؟ هل تتصورون أن ينقلب العالم على الزي الغربي في الملبس بعد كل هذا التطور الهائل الذي شهدته صناعة الأزياء الغربية وبعد هذا الإقبال المنقطع النظير عليها عالمياً حتى من منافسيها؟ ولا أبالغ إذا قلت إن القوى التي ستحل محل الغرب في المستقبل ستكون غربية بالوكالة، بمعنى أنها ستسود اعتماداً على الأسس التكنولوجية والعلمية والاقتصادية والإدارية التي أرساها الغرب. ويجب ألا ننسى هنا أن الصين ليست أكثر من معسكر تصنيع وتجميع كبير للمنتجات والتقنيات الغربية لرخص الأيدي العاملة فيها لا أكثر ولا أقل. أي أنها لم تتطور وتنم بناء على اختراعاتها الخاصة، بل بفضل الخبرات الغربية.

إننا نعيش حالة انفصام جلية في تعاملنا مع الغرب، فمن جهة لا نمل من شتمه وفي بعض الأحيان مقاومته، لكننا في الآن ذاته نسعى جاهدين في تقليده والتماهي معه، عملاً بنظرية ابن خلدون التي تقول: "إن المغلوب يحاول دائماً تقليد الغالب". أوليس أقصى طموحنا السياسي أن نحقق الديمقراطية على الطريقة الغربية؟ ألا ينادي المعارضون العرب بضرورة التخلص من الاستبداد وتطبيق الديمقراطية التي أصلها غربي منذ العهد الإغريقي؟ ألا نحلم ليل نهار بالوصول إلى ما وصل إليه الغرب تكنولوجياً وعلمياً واقتصادياً؟ فمن جهة نخشى الانسلاخ الثقافي، ومن جهة أخرى نمشي بأرجلنا نحو التغريب على كل الصعد.
ولعل أكثر ما يثير السخرية وحتى الضحك في مواقف بعض العرب الذين يرفضون نظرية "نهاية التاريخ" ويهللون للساعة التي سيسقط فيها النموذج الغربي، أنهم ليس لديهم البديل. وكل ما يتمنونه هو أن تحل الصين او اليابان محل أمريكا في قيادة العالم، أي أنهم يراهنون على الغير في مقارعة الغرب، بدلاً من أن يقارعوه بأنفسهم. ففي الماضي القريب كنا نشجع السوفييت ضد الغرب فسقط الاتحاد السوفييتي وسقطت معه آمالنا العريضة. واليوم نعوّل بنفس الطريقة البائسة على الصين، كما لو أنها ستأخذ لنا بثأرنا من الغرب، مع العلم أن الصينيين بدأوا يفكرون جدياًً بدورهم الإمبريالي المقبل. فقد نظمت جامعة شنغهاي قبل فترة مؤتمراً للبحث في الدور الرسالي للصين في العقود المقبلة. أي أن القوى العظمى عندما يتوافر لها فائض القوة ستبحث عن مجال خارجي لتصديره، وبالتالي "ما حدا أحسن من حدا"، ناهيك عن أن اللعاب الصيني يسيل بشكل منقطع النظير من أجل النفط في أي مكان كان. وقد بدأ الصينيون يوجهون أنظارهم باتجاه منابع النفط حتى في أمريكا اللاتينية، ناهيك عن السودان. وربما لن يمضي وقت طويل قبل أن نبدأ بالحديث عن الأطماع الصينية في الثروات النفطية هنا وهناك. وأرجو أن لا يقول لي أحد إن الصين ليست ذات تاريخ استعماري، فهذا الكلام قلناه عن أمريكا "الطيبة" في منتصف القرن الماضي عندما هبت لمساعدة مصر ضد بريطانيا وفرنسا وإسرائيل فيما يُعرف بـ"العدوان الثلاثي"، دون أن نعلم أن واشنطن لم تكن فاعلة خير وقتها، بل كانت تحاول كنس الاستعمار القديم كي تحل محله.

وبالتالي لو أن الحالمين والمنادين من العرب بإسقاط النظام الغربي، بأشكاله السياسية والاقتصادية والعسكرية، ودحض نظرية فوكاياما، لو كانوا يريدون أن تحل محله قوة عربية أو إسلامية لتفهمنا أحلامهم ومطالبهم "القومية"، وحتى باركناها. لكن، من سخرية القدر، فهم يراهنون بشكل رومانسي على قوى لا تمت للعرب والمسلمين بصلة، على مبدأ "ليس حباً بعلي بل كرهاً بمعاوية". وبالتالي بدلاً من اجترار تجاربهم وآمالهم القديمة بالتعويل على قوة ضد الأخرى،عليهم أن يأخذوا بنصيحة توفيق الحكيم أعلاه في تعاملهم مع الأقوياء،على مبدأ "ما لايُدرك كله لايُترك جله"، لعلهم يدخلون يوماً الدوري الممتاز، وينافسون بقدراتهم الذاتية.