كتب الأستاذ ياسين الحاج صالح الباحث والمفكر السوري مقالاً هاماً نشرته صحيفة الحياة بتاريخ 21 -5 -2006 بعنوان (من "العروبة أولاً" و"سورية أولاً" إلى آفاق الوطنية الدستورية...) أثار فيه عدداً من المسائل المتعلقة بالعروبة والوطنية السورية ورفض العروبة كعروبة وضرورة التفريق بينها و بين العروبة المستبدة.... هنا بعض الردود السريعة على المقال :

- سورية أولاً، أمر طبيعي بعدما كشفت عقود من الأزمات والكوارث المتتابعة عجز "العروبة أولاً" أو الوطن العربي أولاً عن بناء دولة وطنية عادلة راعية لمواطنيها، وبعدما أصبحت القومية تستدعي التنازل عن كل الحقوق المواطنية باتجاه إلغاء المواطنية والحقوق إلى أن تمّ إلغاء الإنسان ذاته بحجة القومية المقاتلة للعدو، ما يسمى بالصراع العربي الأسرائيلي. ولا غرابة في أن البلدين العربيين الأكثر تضرراً وانتهاكاً للحقوق الإنسانية كانا البلدين المحكومين من نظامين بعثيين .

 القومية العربية كانت كارثة لبلد مثل العراق لأن هذه النظرية غزّت الشوفينية البعثية والعربية ضد المجموعات العراقية الأخرى (أكراد، آشوريين، تركمان، سريان..) فانتهى العراقيون لاعتبار العراق أمة نهائية بدلاً عن كونه بلداً في أمة عربية. وهذا ما سيصنعه لاحقاً الإسلام السياسي في السودان حيث تمّ إقحامه في الحكم وتكوين الدستور الأمر الذي أدى إلى حرب أهلية وأدى إلى أن قوى سودانية غير اسلامية طرحت فكرة الإنفصال عن السودان .

 العقل القومي العربي البعثي خصوصاً يمكن أن يكون كارثياً بالنسبة لسورية لأنه يقوم على اللغة والعرق. وبهذا فهو يخرج كل من ليست العربية لغته الأم من الإطار العربي ومن ثم – هنا الكارثة – من الإطار السوري لأن السوري في العقل القومي العربي هو عربي فقط؟! وهكذا، فاعتبار هذه المجموعات الثقافية السورية غير عربية ومن ثم غير عربية سورية أدى إلى إعتبارها من قبل العقل السياسي البعثي الحاكم والثقافة القومية العربية السائدة في سورية كمجموعات لاجئة إلى سورية لا حق لها في الجنسية السورية أو العيش بشكل طبيعي (ما زال الأكراد يبنون بيوتهم ليلاً وبالسر) ومواطنين من الدرجة الثالثة .

 إخراج الأكراد والآشوريين والأرمن والتركمان السوريين من الإطار العربي ليس بمشكلة كبرى لكن إخراجهم من الإطار السوري هو المشكلة لأنه سيؤدي لاحقاً إلى طرح فكرة الأنفصال أو الحكم الذاتي .

 يقول ياسين الحاج صالح حول الكتابات المعادية للعروبة أنها "لا تنتقد النظام الإستبدادي للعروبة بل تنتقد العروبة ذاتها". ونعتقد أن هذا صحيح لأن العروبة تماهت مع الإستبداد في ذهنية المثقفين السوريين والعراقيين على الأقل، ولأن العروبة كما عرفناها تعطل ليس تكوين الوطنية السورية ولكنها تعطل تكوين كل الهويات الوطنية للدول العربية .

 التعصب الوطني السوري يساعد على حل المشكلة الطائفية والأثنية والنزعة القومية والشيوعية (فوق وطنية).

 كان من الممكن الإستفادة من نزعة التعصب التي غزّاها النظام السوري تجاه لبنان بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان باتجاه تكريس عصبية سورية، أكثر من تعصّب سوري تجاه لبنان بحد ذاته. والحقيقة أن التعصب والتمييز القطري والمناطقي كان موجوداً في عزّ قوة العروبة والقومية العربية في سورية لا سيما عند البعثيين السوريين في مناطق دون سواها بسبب طغيان الشعور الطائفي والفئوي، حيث كان البعث غطاء لهم للاستمرار في السلطة .

 بدلاً من تعصب ضد الآخرين وهو ما غذّته السلطة تجاه لبنان ويغذيه من هم خارجها تجاه العروبة، لا بد من العمل على عصبية سورية متوجّهة نحو الذات. فلا وطنية سورية دون عصبية سورية، لسبب بسيط هو أن العصبية دافعة ودينامو للعمل الوطني. والعصبية تقوم على الحب، بينما التعصب ضد الآخرين يقوم على الكره. والحب أو الميل تجاه موضوع الحب هو ما يدفع إلى العمل و تقديم التضحيات في سبيله، بينما الكره الموجّه إلى آخر لا يدفع لحب الذات والعمل لبنائها إلا بشكل مؤقت وبطريقة ضحلة وهامشية لأنه ناشئ عن رد فعل .

 كي لا تكون سورية أولاً قائمة على مكوّن استبدادي، لا بد من أن تقوم على معطيات الحداثة سياسياً واقتصادياً وفكرياً. وهذا لن يكون أبداً إلا على أساس النزعة السورية التي لا يخالطها أي نزعة أخرى لا عروبية و لا دينية ولا عالمية .

 ستبقى القضية السورية عند العروبيين السوريين هامشية أو في مركز ثان إلى أن يتبنوا سورية أولاً. و هذا يعني أنه لا أولوية لحل المشاكل السورية من حريات ومواطنية وجنسية ومنهج عملي لاستعادة الأراضي السورية المحتلة لتبقى هذه المسائل السورية معلقة إلى الأبد، وهو نهج النظام السوري الذي يتعلّق بالقضية القومية للحفاظ على استمراره في السلطة، بينما لا منفعة حقيقية لهؤلاء العروبيين السوريين - وبينهم معارضون و أحزاب معارضة – سوى أنهم يؤمنون إيماناً عقائدياً بالعروبة .

 العروبة في رأينا لا يمكن أن تكون سوى قضية ثقافية، شعور بالأنتماء الثقافي إلى مجموعة ناطقة بالعربية. وبينما هي لدى البعض شعور بالإنتماء إلى مجموعة ناطقة بالعربية وتدين بالإسلام، وهي لدى فئة ثالثة شعور بالإنتماء إلى مجموعة ناطقة بالعربية وتدين بالإسلام وتعتقد بالإنتماء إلى جذر عرقي ينتهي عند مؤسسي السلالة العربية الأسطوريين عدنان وقحطان؟!

 نعتقد أن حل المشاكل السورية المستعصية كلها، سياسية واقتصادية، لن يتم إلاّ بعد حل الخلاف بين اصحاب الهوية العروبية واصحاب الهوية السوريّة باتجاه اعتبار الهوية السورية أولوية ليس بالمعنى الوطني السياسي لكن بالمعنى الثقافي أيضاً .

 إن تشتيت الذهن السوري في قضايا خارج سورية كان السبب في تأخر سورية على كافة المجالات وكان فعلاً سلطوياً بعثياً بامتياز متعلّقاً بالديماغوجيا السلطوية لتأبيد تحكمها بالمجتمع السوري وتخليفه لتأبيد تحكمها بالسلطة.

 النزعة السورية والوطنية السورية تقوم على العصبية السورية الموجّهة نحو الذات حيث تكون سورية بالنسبة للسوري هي المركز. وهذا لا يعني أن تقوم هذه الوطنية على التعصب ضد الآخرين إلا بما يفيد تغذية هذه الوطنية السورية باتجاه فك الإشتباك مع أية قضايا ثقافية أو سياسية تعيق تكوين الوطنية السورية .

 بعد تكوين هذه الوطنية السورية هوية وانتماء ودولة وثقافة، تعمل الدولة السورية والمؤسسات الثقافية السورية لإقامة أفضل علاقات مع دول الجوار والعالم .

 الوصول إلى تكوين الهوية السورية والوطنية السورية لن يتم بهدوء وسلام بل عبر صراع فكري وعملي طويل الأمد لوجود معوقات ضخمة اعتقادية وسياسية. وبشكل عام لن تقوم الوطنية السورية إلا في مجتمع حر حيث يمكن تبني الأفكار والدفاع عنها بحرية وأمان ومسؤولية.

- في كل الحالات لا نعتقد الوصول إلى الوطنية السورية – كما في الوطنية الفرنسية أي تماهي الأمة بالوطن , بحيث تتحول سورية في أذهان السوريين إلى أمة و ليس مجرد وطن ينتمي إلى أمة عربية – دون صراع ربما يكون دموي في مرحلة ما أو يمر بمخاض حرب أهلية , لاسيما إذا نظرنا إلى تكوين الأمم أو الأوطان في التاريخ .

 وطنية سورية معادية للعروبة لا يمكن ان تكون ديمقراطية او دستورية. هذا صحيح لأن جزءاً مهمّاً من السوريين بعد تكوين الهوية السورية يمكن أن يبقى على خياره العروبي. لكن دستور وممارسة ديمقراطية يكفل بحرية الفكر والأنتماء والممارسة السياسية على أن لا يخل بالهوية السورية أو الوطنية السورية .

 يقول الأستاذ ياسين الحاج صالح أن "السورية، كما العروبة، تزداد عقيدية كلما ضعف مكوّنها التعاقدي". وهذا صحيح وهي مشكلة ناجمة عن غياب العقل الديمقراطي لغياب الديمقراطية عن الوضع السوري موضوعياً لنصف قرن (منذ الوحدة السورية المصرية1958). ولهذا التاريخ دلالته. فلقد غابت الديمقراطية منذ اختار السوريون - أغلبيتهم على الأقل- الأندماج سياسياً و قانونياً "في العروبة" وتخلوا بسذاجة و طيبة قلب عن "قطرهم" السوري لصالح "وطنهم" العربي .

 إن الخيار الديمقراطي لا يبدو حتى الآن جاداً في سورية لدى النظام ولدى طيف واسع من المعارضة العروبية، طالما لم يتم اختيار الوطنية السورية كانتماء اول و أخير للسوريين بما فيهم هؤلاء في السلطة و المعارضة .

 العقد الأجتماعي يأتي لاحقاً بعد تحول العقيدة السورية إلى خيار وحيد للسوريين في النظام والمعارضة ومكون للهوية الوطنية. العقد الأجتماعي يأتي في المرحلة الثالثة بعد العقد الوطني السوري وبعد الديمقراطية .

 نقول مرحلة ثالثة لأنه يبدو أن الديمقراطية وما ينتج عنها أو يلازمها من عقد أجتماعي أصعب بكثير من تحقق الأتفاق على الأنتماء الوطني السوري .

 حول الأنفلات الوطني السوري من الهم العربي لاسيما الأقليمي، لا تستطيع سورية أن تشتغل في الموضوعات العربية بشكل أيجابي فاعل إلا بعد تكوين الوطنية السورية الديمقراطية. وهي إن اشتغلت سابقاً عبر نظامها البعثي أو مجموعاتها العروبية السياسية فقد كانت إما اشتغالات سلبية ساهمت في تعقيد الأوضاع العربية كما في لبنان والعراق وحتى في فلسطين مؤخراً، وإما كان اشتغالها العربي ولو كانت محصلته أيجابية فقد كانت على حساب القضية السورية وفي جوهرها الأنسان السوري معيشة و حريات ...

 نحن ندعو الأستاذ ياسين الحاج صالح و كل المفكرين السوريين إلى بذل الجهد المعرفي في معرفة الوقائع الأجتماعية السورية ومراكمة المعارف الإثنولوجية والسوسيولوجية والتاريخية حولها، كما يطلب الأستاذ ياسين هو من بين المفكرين والكتاب السوريين الأكثر قدرة ونشاطاً. فمعرفة الواقع ومراكمة المعرفة باتجاه تحويلها إلى مبادئ فلسفية وحقوقية دستورية هو سبيل الوصول إلى وطنية سورية ديمقراطية غير عنصرية .