الأجواء السورية التي سبقت تقديم القاضي ديتليف ميليس تقريريه الأول والثاني في الأشهر الأخيرة من العام الماضي, ليست الأجواء ذاتها التي سبقت التقرير الأول للقاضي سيرج براميرتس, كذلك التقرير الثاني الذي سيقدم مطلع هذا الأسبوع. فالتوتر والقلق شبه غائبين عن الشارع السوري, مع ان الضغوط والتحديات تبدو أكبر وأكثر جدية مما كانت عليه من قبل, فثمة قرارات وإجراءات دولية تتخذ لتشديد الحصار على سوريا. فبعد القرار 1680, هناك حديث عن امتناع مصارف فرنسية من التحويل الى المصرف التجاري السوري, ناهيك عن قرار اميركي واضح وصريح بهذا الخصوص. يُضاف إلى الضغط الدولي, ما شهدته الأسابيع الأخيرة من أحداث, أعطت دفعاً لزيادة الضغط لدى اعتقال السلطات السورية لعدد من المثقفين السوريين من الموقعين على إعلان بيروت ­ دمشق, الداعي إلى تصحيح العلاقات بين البلدين, بعدما أثارت صيغته وتوقيته حفيظة السلطات السورية كونه قدم قراءة غير موضوعية لأسباب تأزم العلاقات, وحمَّل الجانب السوري الجزء الأكبر من المسؤولية, مع تجاهل تام للدور الإيجابي للتدخل السوري الذي تم تحت مظلة عربية ودولية لتوطيد السلم الأهلي في لبنان. كما أكدت مصادر خاصة لـ «الكفاح العربي»: إن أكثر ما أثار الاستياء في إعلان المثقفين السوريين تزامنه مع إصدار مجلس الأمن القرار 1680. وكأنه «جاء بالتنسيق وليس مصادفة», وحتى لو كان الأمر عفوياً ومحض مصادفة, لا بد ان يكون له انعكاسات سلبية على الشعور القومي, إذ يأتي مواكباً للضغوط الخارجية. وقالت تلك المصادر ان لدى السلطات السورية توجهين في التعامل مع هذه القضية. توجهاً متشدداً لن يتسامح مع أي شيء من شأنه إقلاق أمن البلاد, لدقة هذه المرحلة وحساسيتها, وعلى النظام أن يكون حذرا وحازماً خلالها. وتوجهاً آخر يقول بضرورة احتواء المثقفين والآراء الأخرى, طالما هي لا تتعامل مع الخارج.

لكن المعطيات على الأرض تعزز بمجملها التوجه المتشدد, مع شهود الأسبوع الأخير حدثين هامين في الداخل والخارج, كلاهما يدفعان نحو مزيد من التشدد الأمني, فقد صحا السوريون يوم الجمعة 2 حزيران €يونيو€ الحالي على نبأ إحباط عملية إرهابية قرب مبنى الإذاعة والتلفزيون وسط دمشق, حاول تنفيذها عشرة شبان تحولوا من الالتزام بالطرق الصوفية إلى أتباع لجماعة تكفيرية. وقد قتل في الاشتباك أربعة من المهاجمين وجرح اثنان واعتقل أربعة. ولعل أهم ما ورد في الخبر ضبط أسلحة اميركية غير موجودة في سوريا, تبين أنها مهربة من دولة مجاورة, بالإضافة الى بنادق صيد وقنابل مصنوعة محلياً, وأقراص مضغوطة €سي.دي€ وأشرطة كاسيت وهواتف نقالة وصواعق؛ تمَّ عرضها على شاشة التلفزيون الرسمي إثر الاشتباك.

وذكرت مصادر لـ«الكفاح العربي» أن عملية مراقبة استمرت نحو شهر لهذه المجموعة وغيرها من المجموعات المنتشرة في أكثر من محافظة سورية, سارعت السلطة إلى تطويق غالبيتها. وتوقعت تلك المصادر أن تكون محاولة هجوم يوم الجمعة رداً على ملاحقة قوى الأمن السوري لتلك الجماعات. ولفتت المصادر ذاتها النظر إلى مخطط خطير تسعى قوى خارجية لتنفيذه عبر تسليح مجموعات من الشباب المتشدد بهدف توسيع دائرة الفوضى عبر وصل الساحة العراقية مع السورية واللبنانية, وهو ما تسهر السلطات على منع حدوثه, ولم تستبعد المصادر أن تكون الأيام المقبلة حبلى بالمزيد من الاجراءات الأمنية, لأن سوريا تعيش معركة حقيقية على عدة جبهات لا تحتمل المهادنة ولا المسايسة.

تشير تفاصيل النبأ الرسمي عن الحادث إلى عدة دلالات, تؤكد خطورة ما جرى, فالمهاجمون من الشبان الصغار ما دون سن العشرين, كانوا يتبعون طريقة صوفية, ثم تحولوا إلى اتباع جماعة تكفيرية, بعد شهر رمضان الماضي ما يعني أنهم معروفون تماماً, وموضوعون تحت مراقبة أجهزة الأمن منذ فترة طويلة, كما أن تحفظ السلطات على ذكر الدولة المجاورة التي تم تهريب السلاح منها, لا يخلو من دلالة سياسية وأخرى أمنية.

من الجانب السياسي, الحرص على عدم توتير العلاقات مع دول الجوار على غرار ما فعلت الأردن لدى إعلانها عن تهريب سلاح من سوريا الى جماعة حماس في الشهرين الماضيين, ومن ثم التراجع عن هذا الإعلان, في وقت لا تحتمل العلاقات بين دول المنطقة أي توتر. أما الدلالة الأمنية, فهي أن خيوطاً كثيرة تتابعها السلطات الأمنية في سوريا, ويقتضي التحقيق فيها الكثير من التكتم والسرية, خصوصاً وأن التسجيلات التي كان يحملها المهاجمون, كانت للداعية محمود قول آغاسي المعروف بأبي القعقاع, الذي قيل إنه كان مسؤولاً عن تطويع الجهاديين للذهاب الى العراق قبيل بدء الحرب في آذار €مارس€ 2003 , وأن أبي القعقاع ذهب الى العراق وعاد الى حلب. وعلى الرغم من عدم تأكد هذه المعلومات عن أبي القعقاع, لكنه موجود كداعية وتعرف جماعته باسم غرباء الشام, وهي جماعة دينية متصوفة. وقد تكون هي الجماعة المنتمي إليها المهاجمون الشبان إلى حين التحاقهم بمجوعة أخرى تكفيرية, لم يعلن عن اسمها, كما لم يؤكد أحد أنها جماعة «جند الشام» التي اشتبكت معها السلطات السورية أكثر من مرة العام الماضي, وقتل العديد من عناصرها, وكان أول تلك المواجهات في مطلع حزيران العام الماضي, حيث أعلن عن تفكيك €خلية€ تابعة لـ«جند الشام» في منطقة دف الشوك قرب دمشق. تبعها سلسلة اشتباكات في مناطق متفرقة من البلاد, قبض فيها على عناصر غير عربية هربت أسلحة من لبنان أو العراق, ويقال إن تنظيم «جند الشام» أسسه إسلاميون من منطقة بلاد الشام في أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي, وهو تابع للقاعدة في بلاد الرافدين الذي يتزعمه أبو مصعب الزرقاوي.

اعتبر مراقبون أن الهجوم الأخير هو الأخطر كونه استهدف مبنى الإذاعة والتلفزيون الواقع قريباً من عدة أبنية هامة وحساسة, كمبنى الأمن الجنائي والجمارك ووزارة التربية والتعليم العالي. ورجحوا سيناريو أن يكون المهاجمون ينوون اقتحام المبنى واخذ رهائن والسيطرة على البث وإذاعة ما يحملونه من أشرطة دينية. وعلى الرغم من اللامنطقية والمغالاة في هذا السيناريو, إلا أنه الأقرب لتفسير سبب حمل المهاجمين لخطب ومواعظ دينية. ومع أن النبأ الرسمي, لم يفد بأنهم يستهدفون التلفزيون, إلا إن هذا ما فُهم من تصريحات الدكتور فايز الصايغ المدير العام للإذاعة والتلفزيون إثر الحادثة, قائلاً بأن حرس التلفزيون شكوا في حركة مجموعة تقدمت باتجاه سور التلفزيون الساعة السادسة صباحاً, فأطلقوا النار نحوهم, فردت المجموعة عليهم بإطلاق النار, مما أدى إلى حصول اشتباك, ومقتل أربعة منهم فوراً, بالإضافة إلى رجل أمن.

وهناك من ربط بين تصريحات نائب رئيس الجمهورية المنشق عبد الحليم خدام قبل يوم من الحادثة حول ضعف النظام السوري وبين هذه المحاولة الفاشلة لدخول التلفزيون, ومنهم من ذهب به الظن الى أنها محاولة لإذاعة البلاغ رقم واحد, إلا ان المصادر التي تحدثت لـ «الكفاح العربي» أكدت أن السلطات السورية تعرف حجم معارضة خدام تماماً, وهو لا يبعث على القلق, حتى بعد تحالفه مع الأخوان المسلمين. كما استبعدت المصادر ارتباط ما تعلنه جبهة الخلاص بتحرك الجماعات التكفيرية داخل سوريا, وقالت «إن هناك جهات أخرى تحرك هذه الجماعات وهي معروفة لدى السلطات». وبخصوص جبهة الخلاص التحالف بين خدام وعلي صدر الدين البيانوني أضعف جماعة الإخوان كثيراً, وهذا التحالف الذي أعلن عنه في لندن ليس له أي ثقل, سوى أنه جزء من سياسة الضغط على سوريا.

وقد تزامن المؤتمر التأسيسي لـ «جبهة الخلاص». اسم تحالف خدام €البيانوني, مع اقتراب موعد تقديم تقرير براميرتس, حيث اجتمع يوم الأحد الماضي حوالي خمسين معارضاً سورياً في أحد أفخم فنادق العاصمة البريطانية, واستمرت المناقشات لمدة يومين بحضور عدد من وسائل الإعلام الغربية. وفقط راديو سوا بث مباشرة كلمتي راعيي المؤتمر خدام والبيانوني, واللذين حاولا مع المجتمعين وضع برنامج عمل قيادة جبهة الخلاص بهدف تغيير النظام بشكل «سلمي». واقر خدام بأن «هناك صعاباً كبيرة في طريق التغيير, وعلينا أن نرى هذه الصعوبات ونعمل على التغلب عليها». أما البيانوني فقال من جهته «إن السلطة في سوريا تحاول دعم وجودها عبر تقديم نفسها كجدار ممانعة أمام القوى الخارجية والمحور الدولي حيث تروج هذه السلطة أن البديل سيكون الفوضى». ودعت «جبهة الخلاص» المعارضة والقوات المسلحة في سوريا وأجهزة الأمن, إلى ما وصفته بكسر حواجز الخوف وإسقاط النظام بغية إحلال الديمقراطية. وحرصت الجبهة على عدم تمييز نفسها عن تلك المعارضة التي تدعو إلى تغيير ديمقراطي في سوريا, في إشارة إلى جماعة «إعلان دمشق». وقال البيان «إن الجبهة ليست بديلا عن أي تجمع وطني معارض بما في ذلك إعلان دمشق الذي تعتبره حجر أساس في حركة المعارضة الوطنية البناءة».

إلا أن رد المحامي حسن عبد العظيم الناطق باسم التجمع الوطني الديمقراطي في سوريا, وهو واحد من أبرز أركان إعلان دمشق لم يتأخر عن نفي تلقيه دعوة لحضور مؤتمر«جبهة الخلاص» وقال معلقاً: إن «إعلان دمشق» لا علاقة لها إطلاقاً بجبهة الخلاص الوطني, وإن أي عمل تقوم به جبهة الخلاص الوطني هو خارج «إعلان دمشق», وإن انضمام حركة الإخوان إلى هذه الجبهة هو أمر يعني حركة الإخوان فقط ولا يعنينا, خصوصاً أنه تم من دون قيام الإخوان بالتشاور أو التنسيق مع «إعلان دمشق».

فيما رأى النائب الدكتور محمد حبش في تصريحات صحفية: إن لمؤتمر جبهة الخلاص هدفاً سياسياً مباشراً وهو تهيئة الأجواء لتقرير المحقق الدولي سيرج براميرتس, وأن هذه المعارضة الانقلابية ليس لها ما تراهن عليه إلا هذا التقرير, لذا «هناك اندفاع باتجاه الاستفادة من التقرير وتوجيه مساره ليكون ضد سوريا بشكل مباشر». وهذا ما اتفق معه مراقبون للشأن السوري, أشاروا الى أن الشخصيات المعارضة التي اجتمعت في لندن غير معروفة لدى السوريين, سوى خدام والبيانوني, لذا سمي المؤتمر باسمهما, كما أن انعقاده في أحد أفخم فنادق لندن يدل على الجهات الداعمة لهذا اللقاء, وتم لفت النظر الى ضرورة تذكر مؤتمر المعارضة العراقية الذي احتضنته لندن نهاية عام 2002 ضمن تحضيرات الحرب الأميركية على العراق, ومع أنه لا وجه للمقارنة بين المؤتمرين, فإن النتائج التي حصدتها المعارضة العراقية كفيلة بإفشال مؤتمر «جبهة الخلاص».