د.احمد مجدلاني

الخلاف الناشب الآن وفي غير موقعه حول قانونية وشرعية دعوة الرئيس محمود عباس أبو مازن إلى استفتاء شعبي على وثيقة الأسرى ، واستحضار نصوص واجتهادات قانونية حول أحقيته من عدمها أو مخالفته للدستور ، أو أن هذا الاستفتاء هو تصويت على الثوابت الوطنية الفلسطينية أو غير ذلك من التقولات ، التي تحاول إلصاق كل التهم الممكنة في الاستفتاء ومن يدعوا له أو ممن يؤيده ويدعوا له .

هذه الثقافة الشعبوية والتي ليست بالجديدة على التراث السياسي الفلسطيني ، وفي الممارسة السياسية الفلسطينية أيضا، فقد كانت هناك محطات بارزة كانت فيها هذه الثقافة والممارسة عنوان لمحطات عديدة في التجربة السياسية الفلسطينية، وقد تكون الأجواء والمناخات التي رافقت الحملات الانتخابية بالانتخابات التشريعية الأخيرة، والتي نتغنى جمعيا بنزاهتها وشفافيتها وحريتها وديمقراطيتها ، احد ابرز تجليات هذه الثقافة وممارستها بالتعبئة والتحريض والتحشيد لهذا الطرف أو ذاك بما في ذلك فبركة الدعايات والأكاذيب والتشهير والقصص المختلقة والمبهرة وتضخيم وترويج معلومات فيها القليل من الصحة بغية التضليل والتمويه على الحقيقة لكسب تأييد الجمهور .

هذه العقلية الشمولية في الفهم والتحليل تستخدم نفس الأدوات في الخلاف والتباين والاجتهاد الناشب حول النهج السياسي والسياسات المتبعة ، ولم تتوانى هذه العقلية مجددا من استخدام ترسانة التهديد والوعيد والتخوين بما في ذلك التكفير أحيانا ، في شان من شؤون الدنيا والسياسة والحكم وليس في شأن من شؤون الشريعة والأحكام المطلقة التي لا تقبل الاجتهاد والتأويل .هذه العقلية المهيمنة ومدعية احتكار الحقيقة المطلقة، أطلت من جديد في التعاطي مع الرأي المخالف أو غير المتفق معها في الاحتكام والعودة إلى الشعب مصدر السلطات والتشريع ، وهو ذات الشعب الذي جرى الاحتكام إليه لإعطاء الشرعية في الانتخابات التشريعية الأخيرة ، وقد بدا الرفض غير المفهوم وغير المبرر إلا بمقاييس ومعايير الحرص والتمسك بالسلطة واعتبار إن الديمقراطية عبارة عن سلم للوصول إليها ، وللاستخدام ولمرة واحدة فقط ، وتغلق الطريق أمام أي سلوك وممارسة ديمقراطية لا تكون فيها الانتخابات فقط هي المرحلة الاولى والأخيرة بل محطة من محطاتها العديدة ، وان الممارسة الديمقراطية لها أشكال متنوعة ومتعددة لممارستها .

الذين يتبارون الآن في رفض مبدأ الاستفتاء وأحقية الرئيس أبو مازن بالدعوة له سواء من الهواة أو قليلي الخبرة والتجربة الكافية بالمرجعيات القانونية والدستورية أو ممن يتبنون هذه الآراء والفتاوى على خفتها ، والاستناد الانتقائي والمجتزأ لنصوص متفرقة من دساتير أو تجارب لبعض البلدان ، يؤشر وبما لا يدع مجالا للشك أن المسالة قد دخلت في إطار التوظيف السياسي وليس المهني ، وهو ما يقود فعلا إلى التركيز على أن مسالة الاستفتاء هي بالأساس قضية سياسية وليس قضية خلاف دستوري أو فقهي قانوني ينبري للتصدي لها الهواة أو غير المختصين من هنا وهناك .

وإذا ما كان من الضروري تصويب الوضع وإعادة الموضوع إلى أساسه السياسي باعتباره قضية خلاف سياسي بين اتجاهين وتيارين في المجتمع الفلسطيني ، فإنه والحالة هكذا وفي ضوء التصويب المطلوب التركيز على القضايا السياسية الخلافية ، ولغاية اللحظة الراهنة لم نسمع من قيادة حركة حماس ومن يتفق معها بالرأي موقفا يحدد القضايا المختلف عليها بوثيقة الوفاق الوطني بل مازال التركيز جاريا على القضايا الإجرائية ، حيث جرى إثارة إشكالية على مكان الحوار في العشرة أيام المحددة للحوار ، ومن ثم يجرى التركيز مجددا على جدول زمني جديد للحوار لا سقف زمني ولا حدود له ، وكما هو واضح وكما عبر عن ذلك الناطقين العديدين والكثر لحركة حماس انه إذا كان نتيجة الحوار الوصول إلى حكومة وحدة وطنية ، فإن ذلك ممكن بعد ستة اشهر بعد الاتفاق على أسسها الآن وتأجيل التنفيذ حتى لا يسجل أن حركة حماس فشلت في إدارة الحكم ، ومع هذا التشخيص المبسط والمسطح للازمة واختزالها إلى قضية مشاركة الأطراف الأخرى بالحكم يجري طمس وتغييب القضية الأساس وهي القضية السياسية المختلف عليها داخليا ، والتي تسبب أيضا العزلة السياسية والحصار الاقتصادي على الشعب الفلسطيني ، وتغيير الأولوية الدولية بالتعاطي مع والقضية الفلسطينية من قضية حرية واستقلال لشعب إلى قضية معونات إنسانية وإغاثية .

القضية السياسية تستلزم حلولا سياسية تنطلق بالأساس من تحديد طبيعة الأزمة ، من اجل تحديد الأشكال والاساليب الممكنة لمعالجتها ، ونكران وجود الأزمة والتعامي عنها لا يمكن أن يشكل مدخلا لعلاج التباين السياسي خاصة وانه لم يعد قضية داخلية بقدر ما أصبح قضية إقليمية ودولية في آن معا. كما إن الاتفاق على تحديد قضايا الخلاف يفتح الطريق أمام إدارة حوار جاد ومسؤول يمكن أن يوصل إلى نتائج تجنب الشعب الفلسطيني ويلات الدخول في اقتتال داخلي ، وإذا لم توصل الحوارات إلى نتائج تؤدي إلى توافق على أسس متفق عليها والتي شكلت وثيقة الوفاق الوطني أساسا صالحا لها باتفاق الجميع فإن اللجوء للاستفتاء والعودة للشعب كخيار أخير لحسم الخلاف والتباين السياسي ، وبديل عن الاقتتال الداخلي الذي لن يكون سوى الشعب الفلسطيني وقضيته الخاسر الأوحد والأكبر منها

إن محاولة الانقلاب والتنصل من وثيقة الوفاق الوطني والتي أصبحت ملكا للشعب الفلسطيني وليس لأصحابها ومطلقيها بعد أن تبنها مؤتمر الحوار الوطني يدخل في باب المناكفات السياسية ، ولا يدخل في إطار السياسية الايجابية البناءة ، فمن يريد التوصل لاتفاق وبالحوار فكان من الممكن البدء بورشة الحوار منذ الإعلان عن تحديد موعد الاستفتاء، حيث إن تحديد الموعد لم يعلق الحوار أو يلغيه بل أبقى الباب مفتوحا لمواصلته حتى عشية إجرائه ، لكن كما يبدوا إن عقلية الهيمنة والتفرد والإقصاء بما فيها المشاركة الشعبية في تحديد الخيارات هي التي تسود وتغلق أبواب ومساحات الحوار لتحل محلها سياسة التخويف والتخوين والتصعيد غير المبرر والمفهوم باستخدام القوة والعنف بديلا له حيث يمكن استخدامها وتوظيفها .

إن طريق العنف واستخدام القوة من أي طرف كان ومن يدعوا له ومن يمارسه طريق لن يقود سوى إلى دمار الشعب الفلسطيني وقضيته ، ومن يعتقد واهما انه يستطيع التحكم بدوامة العنف بعد إطلاق الرصاصة الاولى فإنه واهم أيضا لأنه سيكون صاحب القرار بالبدء لكنه لن يستطيع التحكم لا بمسار الأحداث ولا بنهاياتها حتى ولو خلصت النوايا لديه .

إن التحذير والرسالة التي يرسلها شعبنا إلى من يعتقد إن سلاح القوة يمكن أن يفرض واقعا على الشعب الفلسطيني ، ويمكن أن يغير من المسار الديمقراطي ، أو حتى التعامل معه بانتقائية ، وان سياسة التحريض والتخوين والتكفير لن يكون من سبيل لها سوى الاقتتال ولو على أتفه الأسباب .

انطلاقا من هذا فإن من لديه الثقة بتأييد الشعب له ولبرنامجه لا يخشى من الاستفتاء ، ولا يشكل العودة للشعب كآلية من الآليات الديمقراطية المتبعة انقلابا دستوريا لا ابيضا ولا اسودا ، ومن لديه الثقة بقوته الشعبية والجماهيرية من الممكن أن يستخدم الاستفتاء كقوة تأكيد لبرنامجه وحضوره الجماهيري ، لا أن يشن عليه الهجمات ويحاربه ويحرض عليه من حيث المبدأ وكأنه رجس من عمل الشيطان .

إن الاستفتاء من الممكن وهذا هو المهم أن يشكل واحدة من الآليات المهمة والضرورية لاستعادة الشعب لقراره بيده ، وإذا ما حدث هذا فإنه سيفتح الأبواب مشرعة على استخدام هذه الآلية للرقابة الشعبية المباشرة ، ليس للحكم على قضية سياسية ما ، وإنما لتقليل الهيمنة الحزبية والفصائلية التي تصادر رأي الشعب بادعاء احتكار تمثيله