إما ان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موافقان على ان تقوم اسرائيل بتأجيج مناخ الحرب الأهلية بين الفلسطينيين، واما أنهما أكثر حكمة من مجرمي الحرب الاسرائيليين الذين باتوا يعملون بإمرة حمامة سلام كاذبة اسمها عمير بيرتس وبالتالي فعلى الاميركيين والاوروبيين، وعلى «الرباعية» الدولية، ان توقف - على الأقل - الاعتداءات الاسرائيلية، لئلا يتهم ما يسمى المجتمع الدولي بأنه بعدما فشل فشلاً ذريعاً بايجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية لم يجد سوى اطلاق حرب اهلية كبديل من أي حل. إنه وضع بالغ المأسوية ان لا يكون حتى في امكان شعب يقصف أطفاله بالطائرات ان يتقدم ولو بشكوى تافهة الى مجلس الأمن، فكبار العالم لم تعجبهم نتيجة الانتخابات فتخلوا حتى عن انسانيتهم وعن كل عقلانية، ومضوا في مغامرة جهنمية لإخضاع شعب هو اصلاً تحت احتلال رفضته الشرعية الدولية ولا يمكن ان تعترف به أو تعطيه أي شرعية.

مما يزيد مأسوية هذا الوضع ان الاسرة العربية لا تبدو أكثر رأفة من «رباعية الشر» الدولية. لم تفكر اي عاصمة عربية في ان تستحث مجلس الأمن، وحتى المناشدات الموجهة الى الاميركيين والأوروبيين ظلت تحت خط الخجل والعجز. لا يمكن ان يقنع العرب أنفسهم، ولا العالم، بأنهم لا يستطيعون شيئاً على الاطلاق. ولا يمكنهم ان يعتمدوا فقط على ما يمكن ان يجود به ايهود أولمرت من تطمينات واستعداد للتفاوض، لكنه ماضٍ في اضعاف السلطة. وكأن إسرائيل، ومعها الصمت العربي والدولي، في طريقها الى القضاء نهائياً على السلطة الفلسطينية وعلى منظمة التحرير الفلسطينية وعلى كل ما يمكن أن يعتبر «محاوراً» أو «شريكاً» أو حتى «مفاوضاً».

لكن الفلسطينيين أنفسهم أمعنوا في الرعونة وخيانة الذات، فما معنى لأي فصيل أو تنظيم إذا فقد حسّه بمصلحة شعبه وانكفأ على مصلحة ضيقة. وما قيمة أي فصيل إذا لم يساهم في حيوية شعبه ولم يصن كرامة هذا الشعب... ها نحن بتنا نرى في التظاهرات أعلام «فتح» الصفراء رداً على أعلام «حماس» الخضراء، بعدما كان العلم الفلسطيني هو الغالب. وفي ذلك دلالة واضحة، وموقّعة، بأن الأولوية باتت للتنظيم وليس للوطن. لكن الجميع يبدون، بإصرارهم على المواجهة والتقاتل، كأنهم يرفعون العلم الإسرائيلي البغيض الذي ما كان له أن يظهر لو لم تسرق الأرض الفلسطينية ولو لم يغلب الغرب الأوروبي والأميركي منطق القوة على منطق القانون والعدالة.

هؤلاء الناس المتظاهرون هم في غالبيتهم جائعون محتاجون لم يتسلموا رواتبهم منذ أربعة شهور، ومن حقهم أن يصرخوا، لكن ليس من حق الفصائل المتناحرة أن تستغل صرختهم في صراعات السلطة. فليست الحكومة ولا الرئاسة من حرم هؤلاء من وسيلة العيش، وإنما هي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واسرائيل وبمباركة من الأمم المتحدة، لكن الحكومة والرئاسة ملزمتان بالعمل سوياً لحل هذه المشكلة بأي وسيلة، عربية أو دولية أو محلية. هذه مشكلة لم تحصل حتى في أحلك أيام الاحتلال، لكنها باتت ممكنة مع وجود «السلطة»!

من الواضح أن «فتح» و «حماس» باتتا تحملان الشعب أوزار قصورهما وتعنتهما وفشلهما. لم تعترف «فتح» بعد بأنها خسرت الانتخابات وأنها لم تعد تملك تفويضاً مفتوحاً وأبدياً من الشعب الفلسطيني، لم تعترف بأن هناك قوى أخرى ظهرت في الساحة وأصبحت تقاسمها النفوذ بل ربما تتفوق عليها. أما «حماس» فلا تزال تعتقد أنها يمكن أن تمارس الحكم من داخل سلطة لم تعترف بها يوماً، أو أنها ستسيطر على السلطة لـ «الغائها» عبر الغاء كل ما التزمته تلك السلطة منذ نشوئها. هذا تفكير يلامس الصبيانية والفوضوية ولا داعي لتجريبه بإدامة التجويع والمآسي للشعب.

ثمة حاجة ماسة الى حكماء الشعب الفلسطيني، الى لجنة منهم تسمو على التنظيمات والفصائل وتحظى باحترام الجميع لتقول كلمة فاصلة وواضحة: لا حرب أهلية... أما إذا ترك الأمر ليدار على النحو الذي شهدناه حتى الآن فإن «فتح» و «حماس» ذاهبتان الى إلحاق أكبر أذى بل أكبر إهانة لشعبهما