في هذا الأسبوع تجاوز عدد القتلى من الجنود الأميركيين في العراق الـ2500 قتيل, بينما يبلغ عدد المصابين منهم إصابات مستديمة, عقلية كانت أم بدنية تحول دون عودتهم نهائياً إلى الخدمة العسكرية, عشرة أمثال ذلك الرقم على أقل تقدير. أما الخسائر والتضحيات المالية الأميركية في الحرب, فلا تقل هي الأخرى فداحة. فعلى إثر المصادقة الأخيرة للكونجرس على مبلغ الـ66 مليار دولار الذي طالب به الرئيس بوش كتمويل إضافي, ارتفعت التكلفة الكلية للحرب حتى الآن لتصل إلى 450 مليار دولار عداً ونقداً, مخصومة من جيوب دافع الضريبة الأميركي, الذي كُتب عليه تمويل حرب بوش الدولية على الإرهاب!

والسؤال هنا: ماذا سيقول مؤرخو المستقبل عن هذا الهدر المفرط للمال الأميركي في الحروب؟ أحسب أنهم سيتوصلون إلى استنتاج مؤداه أن أميركا قد طار عقلها إثر تلقيها هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. فتحت تأثير حمى الغضب والهيجان, وجموح الرغبة في الثأر والانتقام لكرامة الوطن الجريح, مدفوعة ومستثمرة أقصى ما يكون الاستثمار من قبل مسؤولي الإدارة الموالين لإسرائيل, حوّلت أميركا جبروتها ونقمتها كلها إلى حملة دولية شعواء ضد ما تسميه بـ"الإرهاب الإسلاموي" الذي كثيراً ما شابه الخلط وسوء الفهم، هو الآخر.
ولكي لا نطلق القول والاتهامات جزافاً, لنتحدث عن أن غزو العراق, شن على ذرائع مختلقة ومزورة, وأنه يخدم تعزيز أجندة خاصة في المنطقة الشرق أوسطية, أكثر مما له علاقة بحماية الأمن القومي الأميركي, والحيلولة دون تعرض أميركا لهجمات إرهابية أخرى مستقبلاً. والملاحظ أن مجموعة مسؤولي المحافظين الجدد نفسها, التي دفعت واشنطن دفعاً باتجاه العراق, هي نفسها التي تمارس الضغوط اليوم وتحض على استخدام القوة من جديد في المنطقة. والنتيجة التي لا مراء فيها أن السياسات العدوانية المتشددة التي تبنتها واشنطن بزعم احتواء "الخطر الإرهابي" أو إلحاق الهزيمة الماحقة به, ساعدت كثيراً في دعمه وتقوية عوده وشوكته. وبذلك تجني أميركا عكس ما تريد, بزراعتها للعاصفة ونيران الغضب الشعبي عليها.

ولما كانت هذه هي النتيجة النهائية, فهل من المثالية الطوباوية أن يفكر المرء فيما يمكن أن توظف فيه هذه الموارد المالية والعسكرية الأميركية الضخمة التي أنفقت على حروب خاسرة؟ في اعتقادي الشخصي أنه كان ممكناً للولايات المتحدة أن تنفق هذه الأموال الهائلة لتعزيز فرص السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، فتعطي مثلاً إسرائيل مبلغاً أقل بعشرات المرات من 450 مليار دولار, لتمكينها من إجلاء مستوطنيها من أراضي الضفة الغربية, وتعويض اللاجئين الفلسطينيين عن أراضيهم التي خسروها جراء الاحتلال, مما يؤدي إلى حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني حلاً عملياً وناجعاً, مع العلم بأنه هو النزاع الذي ظل يلهب المنطقة ويؤرقها على امتداد ما يزيد على نصف قرن. كما يمكن لواشنطن أن تخفف من ويلات الفقر والمرض, في جزء كبير من القارة الأفريقية بمبلغ أقل من الـ450 دولار التي أنفقتها على حروبها الخاسرة على الإرهاب الدولي. بل يمكنها إعادة بناء العراق, بعد تخليصه من آلام الاحتلال ومآسيه. ومما لاشك فيه أن معاناة العراق وخسائره في هذه الحرب, تفوق أضعاف تلك التي تكبدتها أميركا.

فمن ناحية الخسائر البشرية, يقدر عدد القتلى العراقيين بعشرات الآلاف, بينما يذهب البعض إلى القول بتجاوز عددهم المئة ألف قتيل. أما حجم الدمار المادي والاجتماعي الذي لحق به, فمهول ومؤلم بحق. والحقيقة المأساوية التي لابد من تقريرها هنا, أن العراق كدولة عربية كبرى موحدة وقائمة من قبل, وكحضارة إنسانية عريقة, لحق به دمار مرعب ربما يتعذر إصلاحه مطلقاً. أما حمامات الدم اليومية, فلا تقل مأساوية ولا إثارة للقلق, خاصة وأنه لم يلح بعد, من المؤشرات ما يبعث الأمل على وضع حد لها. يذكر في هذا السياق أن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي, كان قد أعلن في شهر ديسمبر من العام الماضي, عن خطة ترمي إلى خفض قواته المرابطة حالياً في العراق. غير أن هذه الخطة قد صرف النظر عنها الآن, بسبب شعور واشنطن بضرورة تقديم أقصى ما تستطيعه من دعم لحكومة نوري المالكي الجديدة.

ذلك هو ما أكده الرئيس بوش خلال زيارته المفاجئة لبغداد الأسبوع الماضي, وحديثه عن بقاء أميركا في العراق إلى حين استتباب أمنه التام, بصرف النظر عن التضحيات التي يتطلبها ذلك. وفي يوم الجمعة الماضي, صوت مجلس النواب الأميركي بأغلبية 256 (مقابل 153 صوتاً معارضاً), لصالح قرار يعد بـ"إكمال المهمة العراقية" وأن تكون لأميركا اليد الطولى في الحرب الدولية على الإرهاب, والاعتراض على أي مسعى لتحديد جدول زمني افتراضي لانسحاب القوات الأميركية. وبينما خابت آمال ومساعي "الديمقراطيين", فإن من الواضح أنه لن يطرأ أي تغيير على هذه السياسات, حتى لحظة مغادرة بوش للبيت الأبيض, خلال مدة تزيد على العامين بقليل. أما صدمة المنطقة العربية جراء هذا الغزو الكارثي الأميركي للعراق, فيرجح لتأثيراتها أن تستمر لعدة عقود قادمة. ومن بين أكبر ضحايا هذا الغزو, إضعاف الموقف الجيوبوليتيكي للعرب, في مواجهة كل من إسرائيل وإيران. ثم هناك الدمار الذي لحق بعلاقات المسلمين السُّنة والشيعة مع بعضهم بعضاً, مضافاً إليه تشويه صورة أميركا نفسها في عيون وأذهان العرب والمسلمين, مع العلم بأن مشاعر الحقد والكراهية لأميركا, لم تبلغ هناك مطلقاً ما بلغته الآن.

ومما زاد الطين بلة وعصف بثقة الشعوب بالولايات المتحدة –ليس على نطاق المنطقة العربية الإسلامية وحدها, وإنما حتى من أقرب وأوثق حلفائها الأوروبيين- ما ارتكبته من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في كل من سجني جوانتانامو وأبوغريب, وركلها للقانون الدولي, ونفاقها المخزي فيما تدعيه من "نشر الديمقراطية", مضافاً إليها نبذها لقيم ومبادئ الجماعية الدولية, لصالح سياسات الحروب الاستباقية والهيمنة المطلقة التي تبنتها إدارة بوش. وبعد فهل يمكن لواشنطن أن تعود إلى رشدها وتصحح أخطاءها وأهدافها... هل لها أن تغير مسارها؟ الأرجح أن الإجابة على هذا السؤال هي النفي. والسبب هو أنها لم تسائل نفسها يوماً بالجدية والصراحة المبتغاة, عن السبب الذي يجعل الإرهابيين يستهدفونها؟ وأقصد هنا على وجه التحديد أن تلك العلاقة "الأزلية" الوثيقة التي ربطت بين واشنطن وإسرائيل –على رغم أنها أسُّ المشاكل- لم تثر نقاشاً جاداً حولها في أميركا!

وعلى امتداد ما يزيد على نصف القرن, ظلت واشنطن تؤثر إسرائيل دائماً على جيرانها العرب, مما يثير غضبهم وحنقهم عليهما معاً. فها هي تصرف النظر عن أسلحة إسرائيل النووية في الستينيات وتتعامل مع مفاعل ديمونة النووي في صحراء النقب وكأنه لم يكن, وها هي تمول احتلالها غير المشروع لأراضي الفلسطينيين في حرب عام 1967 وتبارك سلب تل أبيب ونهبها لحقوق الفلسطينيين وديارهم وممتلكاتهم. وفي أعقاب حرب أكتوبر 1973, تمكن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي وقتئذ, من رفع دعم بلاده لإسرائيل, من ملايين إلى مليارات الدولارات.

وتلك أميركا تبارك سراً اجتياح إسرائيل للبنان وحصارها لعاصمته بيروت في عام 1982, ثم لا تبدي اعتراضاً لاحتلالها لجنوب لبنان على امتداد الثمانية عشر عاماً اللاحقة! وبدلاً من معاقبتها على ذلك الاجتياح, سعت واشنطن إلى مكافأة حليفتها تل أبيب بإبرام صفقة سلام أحادي بينها وبين بيروت, الهدف منها وضع لبنان تحت إبط إسرائيل وهيمنتها المطلقة.

أما على الصعيد الدولي, فقد حمت واشنطن إسرائيل من نقمة المجتمع الدولي عليها وسعيه لتوبيخها. وفي هذا فما أكثر المواقف والحالات التي استخدمت فيها واشنطن حق النقض "الفيتو" ضد عدد من قرارات مجلس الأمن الدولي الرامية إلى ردع إسرائيل. وفوق ذلك كله باركت واشنطن بطش إسرائيل الوحشي بالفلسطينيين وسرقة أراضيهم, وصولاً إلى تأييدها لحملتها الحالية التي تستهدف تقويض حكومتهم المنتخبة ديمقراطياً بقيادة "حماس". وفي كل هذه المواقف والسياسات الرعناء, تكمن جذور كثير من العداء لأميركا وإسرائيل. وستواصل الدولتان دفع ثمن هذه السياسات فادحاً, إلى أن يحل اليوم الذي ترعوي فيه الدولتان الحليفتان, وتغيران سياساتهما المؤججة لنيران العنف والغضب عليهما.