في العدد الماضي من «المنتدى الثقافي» بحث للزميل جان دايه حول بواكير الشعراء التي يرفضون الاعتراف بها. وأورد بعض الأمثلة من كتابات أدونيس وأنسي الحاج. وبدت تلك النماذج مثل إفادات قضائية تدين طفوليات الكتّاب أمام قرائهم أو نقادهم. وذكرني الباحث بمرحلة كنت لا أزال فيها قارئا. وكنت قد قرأت تلك النماذج بإعجاب. بل حاولت أو تمنيت تقليدها، لأنني كنت أيضا في مرحلة طفولية. وهذه كانت مشاعري ومعارفي في ذلك الوقت. ونادرا ما عرفت أديبا إلا وعمل في مجلة مدرسته ونشر فيها.

الأستاذ دايه يبرز نماذج أنسي الحاج وأدونيس وكأنها وثائق ومستمسكات. ويعتبر أنه عثر على ضرب أدبي من ضروب العمر. وينسى أن دوستويفسكي أعلن التبرؤ ليس من بواكيره بل من معظم روائعه الكلاسيكية. وقد قرأت أحاديث كثيرة لأدباء العالم يقولون فيها إنهم لا يقوون على العودة إلى قراءة كتبهم الأكثر رواجا في العالم. لقد ملوها واستسخفوها.

حق الكاتب أن يتبرأ، معنويا ورمزيا، من مرحلة ما قبل النضوج. إنه لا يقول إن التوقيع ليس توقيعي، بل يقول لقد تسرعت في النشر. ويقول إنها مرحلة لا أريد أن أتذكرها. وإن المرأة التي كتبت لها تلك القصيدة أصبحت فيما بعد كابوسا أو مللا أو حياء. لا يبقى الإنسان في السادسة عشرة من العمر، إلا إذا حل عليه غضب الجنون وتجمد العقل.

هناك شعراء أو كتّاب أو موسيقيون وضعوا روائعهم وهم دون العشرين. من موزار إلى جبران خليل جبران إلى رامبو. هذه ليست القاعدة. أما أكثر البدايات فكانت مغامرات في الكلمة ومحاولات في تجاوز حدود اللغة. والخواطر الشابة تفيض على غير ما تفيض الخواطر المتمهرة في تجارب الأدب وأساليب العطاء.

ينتقل الكاتب أو الإنسان من حال إلى حال، كما في المثل الذي أعطاه دايه عن سعيد عقل، الذي بدأ حياته شاعرا في الحزب السوري القومي وانتهى مجنونا بلبنان. وفات الأستاذ دايه أن سعيد عقل مرّ بمرحلة القوميين العرب ووضع للحركة نشيد «العروة الوثقى». الفنان في الغالب إنسان متقلب أو متطور. وهو يعبر عن مراحله خلافا لسواه من الحدادين والنجارين وباعة الفول السوداني. وهذه قيمته الكبرى. أي انه مراحل مكشوفة واضحة تعبر عن ذاتها ومشاعرها بصدق. وعندما يحاول أن يخفي ما يخجل به فهذا حقه كبشري. القرد وحده بداياته مثل نهاياته، لا شيء يتغير.