محمـد العبـد اللـه

تشير التطورات المتسارعة في العراق إلى أن كل التطمينات التي حرصت أطراف "العملية السياسية" على إشاعتها، وهي تعلن للعالم أسماء أعضاء الحكومة العتيدة، لم تكن سوى أوهام الأمنيات الخاصة. نوري المالكي لم يتوقف منذ ترؤسه للحكومة الدائمة عن تسويقه اللفظي الإعلامي لمجموعة من الخطط / الأهداف التي يأمل من خلال طرحها تخفيف الأزمات الطاحنة التي يعاني منها الشعب، خاصة ـ فقدان المواطن للأمن الاجتماعي، ولرغيف الخبز، والكهرباء، والماء ـ هذه الأزمات التي إرتبط وجودها بالاحتلال وإفرازاته. إن الإخفاقات المتتالية التي رافقت الحكومة، أظهرت أن الأزمة الحقيقية لم تكن مرتبطة بالأساس بالرموز التي تناوبت على مقاعد المؤسسات التي شكلها المحتل، بمقدار ما كانت بالسياسات والممارسات والأهداف التي يسعى الأمريكيون وحلفائهم لتنفيذها في العراق، والتي تتلخص في تدمير الدولة العراقية وتفكيكها، وتفتيت النسيج الإجتماعي المكون لها، والنهب المنظم لثرواتها، وتحقيق الحماية والإسناد لكيان العدو الصهيوني، كخطوات ضرورية للبدء في إعادة صياغة وتركيب المنطقة، دولاً وقوميات وطوائف ومذاهب، بما يخدم ويحقق مصالح المركز الإمبريالي الرأسمالي / الصهيوني.

إن التعثر والفشل الذي أصاب تنفيذ هذه الأهداف بفعل المقاومة الوطنية العراقية، أدى إلى مجموعة متلاحقة من الانتكاسات التي أصابت الغزاة وأدواتهم المحلية، بالرغم من حرص أبواقهم الإعلامية على تصوير الفشل والهزيمة التي تلحق بهم إلى انتصارات، وتقديم المجازر والمذابح والتصفيات على أنها "تصرفات فردية" تستحق الإدانة فقط، لأنها لم تصل إلى مستوى "الإنتهاكات" الواسعة _ أين تقع حملات القتل الجماعية في الفلوجة / الكرمة والقائم وتلعفر والنجف وسامراء وبلد وحديثة والإسحاقي _ ويتطلب تجاوزها إعادة تأهيل قوات الغزو بأخلاقيات "حضارة رأس المال المعولم الإنسانية "! هذا السلوك اللاأخلاقي الذي تابعته البشرية في حفلات التعذيب الرهيبة في أبو غريب وبوكا والمطار والموصل والبصرة، والذي أكّده قبل أيام تقرير البريجادير جنرال "ريتشارد فورميكا" بخصوص استشهاد ثلاثة معتقلين في أحد السجون العسكرية، ومعاناة المئات من ظروف الإعتقال الرهيبة "سبعة عشر يوماً يتناولون الماء وقطع الخبز فقط، ومحرومون من النوم لعدة أيام". إن هذه الممارسات العنيفة مع المعتقلين تأتي ترجمة لتوجيهات وأوامر قيادة البنتاغون، وهذا ماأكده المحامي"امريت سينغ" بقوله (إن وثائق الحكومة نفسها تظهر أن إساءة معاملة المعتقلين في العراق وخليج غوانتانامو وأفغانستان واسعة النطاق ومنظمة). وهذا مايفسر إنعكاس هذه الممارسات على معتقلات وسجون ميليشيا "وزارة الداخلية" و "فرق موتها" المنظمة في أحزاب طائفية / مذهبية / عرقية حاقدة، كما ظهر في ( الجادرية وبعقوبة ).

إن الوعود التي أطلقتها ماكينة الإعلام "المالكية" عن قدرة الحكومة على تحقيق الأمن للمواطنين، تبخرت مع أول ساعات دوام الوزراء في مكاتبهم. ففي مدينة "البصرة" التي زارها المالكي مهدداً ومتوعداً، فارضاً فيها "قانون الطوارىء"، مازال الصراع الذي تخوضه ميليشيات الأحزاب المنضوية في "الائتلاف" يهدد وحدة المدينة، وتنتشر شرارات معاركه لتصيب النسيج المجتمعي الواحد، وهذا مانفذته قوى التخريب المرتبطة بأجهزة الاستخبارات الأجنبية من مهاجمة مراكز العبادة، وإغتيال الشيخ الدكتور "يوسف يعقوب الحسان" عضو الأمانة العامة لهيئة علماء المسلمين، رئيس فرع المنطقة الجنوبية، مع ثلاثة من مرافقيه. كما تشهد العديد من مدن العراق عمليات عسكرية وحشية تنفذها قوات الغزو الأمريكية / البريطانية بمشاركة عناصر الحرس المحلي والميليشيات الحزبية. وإذا كانت مدن "كركوك، العمارة، كربلاء، الرطبة، تكريت، بعقوبة، والفلوجة" تشهد حصاراً وحرباً مفتوحة على أكثر من جبهة، فإن ما باشرت به القوات الأمريكية وتوابعها ضد مدينة "الرمادي" على امتداد الأيام القليلة الماضية، يشير إلى تحضيرات جدية لاستخدام سياسية "الأرض المحروقة" ضد البشر والحجر في هذه المدينة ومحيطها. فقد لجأت القوات المحتلة قبل أسبوع إلى مناوشات على أكثر من جبهة في المدينة، وهو مايمكن تسميته "الإستطلاع بالنيران" من أجل قياس درجة إستعداد المقاومين، والتعرف على أساليب مواجهتهم، ونوعية سلاحهم، وهذا ماحصل في معارك أحياء وشوارع "العدل، الإسكان، الضباط، البوعلي الجاسم والصوفية" التي شهدت مواجهات عنيفة وبمختلف أنواع الأسلحة، إضطر فيها المارينز لطلب تدخل المروحيات والإف 16 (في شارع الملعب دارت معارك بالسلاح الأبيض). وقد نقلت المعلومات أن الجيش الأمريكي استدعى قوات جديدة، تقدر بلواء عسكري "اللواء الثاني بالفرقة المدرعة الأولى" قوامه 3500 جندي كان متمركزاً في الكويت. وهو ماأكدته صحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر في الثلاثين من شهر أيار المنصرم .

العاصمة العراقية تعيش منذ فجر الرابع عشر من هذا الشهر، تحت قوانين استثنائية صارمة، تفرضها الخطة العسكرية / الأمنية المسماة "التقدم للأمام معاً" المتضمنة نشر 75 ألف جندي أمريكي وعراقي، حسب تصريحات قائد قوات حفظ النظام التابعة لوزارة الداخلية، اللواء مهدي الغراوي. هذه العملية هي الأكبر في هذه السلسلة من الإجراءات. فقد سبقتها في ظل الحكومات السابقة، عمليتا "البرق والرعد" اللتان كانت نتائجهما مخيبة لآمال الجهات التي نفذتهما. إن الهدف المعلن لمثل هذه الإجراءات يتحدد في مواجهة الإرهاب (المقصود المقاومة الوطنية المسلحة). وهو ماتدحضه استمرار عمليات المقاومة واتساع دائرة المواجهات. في الوقت الذي ترابط فيه آلاف الحواجز والدوريات في زوايا الأحياء وتقاطعات الشوارع، وتقتحم الآلاف من العناصر المدججة بالسلاح، والمدعمة بالعربات المدرعة والطائرات السمتية، المناطق السكنية الآمنة في محاولة لإشاعة أجواء الرعب، المرتبطة بحملات التفتيش الهمجية. وعلى الرغم من مرور خمسة أيام على هذه الحملة، فإن ضربات المقاومة الوطنية المسلحة داخل بغداد ومحيطها، شهدت تصعيداً ملحوظاً في مواجهتها لنقاط التفتيش والمراقبة الثابتة التي أصبحت أهدافاً واضحة.

إن الخطة التي تسعى حكومة المالكي لتنفيذها على الأرض بدعم من القوات الأمريكية، هي الحلقة الجديدة من سلسلة الإجراءات التي وضعها الغزاة، وسيكون مصيرها، مثل سابقاتها، الفشل المريع. إن عمليات التوجيه والإسناد التي تحرص عليها إدارة الغزو "جولات كوندي ورامسفيلد وبلير" وآخرها الزيارة السريعة "ست ساعات تقريباً" التي حرص بوش وطاقمه على أن تكون ذات "طابع هوليوودي دعائي" كما وصفها المحللون في واشنطن، بهدف تشجيع المالكي وحكومته على "إنجازاتهم" وتوفير الدعم المعنوي لقواتهم الغازية. إن زيارة التسلل الأخيرة، المخفية عن طواقم الإدارة الأمريكية والمحلية (لم يعرف المالكي بوجود بوش في العراق، إلا ّ قبل لقائه بخمس دقائق) تعني أن خطط "التقدم للأمام معاً" و "حرية العراق" التي حرص المالكي وهو في حضرة سيده "الكاوبوي" على التغني بها (إن العراقيين قد حصلوا على حريتهم " للمرة الأولى") هذه "الحرية" لاتعني إلا ّ المزيد من الجرائم والمجازر بحق شعب العراق، الذي جابه ويجابه بكل البطولة والصلابة محاولات إذلاله وسحقه، عبر مقاومته العظيمة للغزاة وأعوانهم، التي ستصنع له حريته، وتعيد له كرامته ، في ظلال العراق الحر السيد .