ما أن بسط الأصوليّون الصوماليّون سلطتهم على مقديشو وجوارها، حتى استنفرت أثيوبيا وحشدت قوّاتها العسكريّة على حدودها المشتركة مع الصومال، وسط اتهامات بالتوغّل تنفيها أديس أبابا. وقد لوحظ التطوّر الخطر هذا فيما الولايات المتّحدة نفسها تتظاهر بالتلويح باحتمالات حوار وتعايش مع إسلاميي «المحاكم الشرعيّة».

فالأمر، إذاً، لا تستنفده النزاعات الدوليّة، هو الذي يحظى ببُعد إقليميّ (وأهليّ) خاص يضرب جذره في حرب أوغادين الشهيرة التي انجرّت، بدورها، عن الحدود الاستعماريّة وخريطتها، كما عن نُظم الاستبداد في القرن الأفريقيّ. وكنّا رأينا، في الأشهر القليلة الماضية، كيف أن القلق الخليجي حيال التطوّر الإيرانيّ النوويّ بدأ يتخذ مساراً خاصّاً يستقلّ به عن مجريات التوتّر الأميركيّ – الإيرانيّ، مع احتفاظه، بطبيعة الحال، بالتقاطُع مع المجريات تلك.

وقصارى القول إن السياسة الأميركيّة لا تنوب مناب معطيات عدّة يزخر بها الواقع والتاريخ والجغرافيا، وقبل كلّ شيء الثقافة السياسيّة للأطراف المعنيّة، بما فيها المخاوف والعوامل النفسيّة التي تتحكّم بالجماعات.

لكنْ ماذا حين يتكامل الإقليميّ والدوليّ، وأين يحصل تكامل كهذا؟

يُلاحظ أن صعود القوى الأصوليّة الإسلاميّة هو، اليوم، مجال هذا التكامل وميدانه. فحين تصل حركة «حماس»، ولو بانتخابات نيابيّة نزيهة، الى سدّة السلطة في فلسطين، أو حين يتمدّد، ولو بالقوّة العسكريّة المحضة، مقاتلو «المحاكم الشرعيّة» في الصومال، يلوح كأن فائضاً طرأ على طبيعة العلاقات الإقليميّة والدوليّة سواءً بسواء، فائضاً ينتمي الى «جنس سياسيّ» غير جنسها.

ومثل هذا التكامل لم يكن قائماً قبل عقد ونصف العقد، حين اعتمدت واشنطن موقفاً من فوز الأصوليين الجزائريين في انتخابات بلادهم يقارب الترحيب، ويغاير الموقف السلبيّ الذي تبنّاه حينذاك الحكم الجزائريّ تؤيّده باريس. إلا أن الفاصل بين الزمنين، وفيه يتربّع 11 أيلول (سبتمبر) 2001، يفسّر الوجهة الجديدة – الراهنة ومفادها إدراج الظاهرة تلك في عداد المحرّم. وربما جاز القول، قياساً بالحرب الباردة، إن الشيوعيّة نفسها، بعد خمسينات الحرب الكوريّة والمكارثيّة، لم تعد ذاك المحرّم. فقط النازيّة لقيت، وتلقى، مثل هذا الإجماع على التحريم، ولو اتخذ أشكالاً متفاوتة تفاوت التعبير عنها. فالاثنتان، النازيّة والأصوليّة، تشتركان، على رغم فوارقهما، في أمور كثيرة تتجاوزان فيها النظم «السيّئة» العاديّة. ففضلاً عن إثارتهما الخوف في جوارهما الإقليميّ، وفي رفضهما التقيّد بالكيفيّات السياسيّة في داخل البلد وبالكيفيّات الديبلوماسيّة مع الخارج، فإنهما تملكان نظريّتيهما لهذا الاختلاف النوعيّ، وهو ما لا تملكه أنظمة السوء العاديّة.

ومع الإقرار باختلافات أساسيّة بين التشكيلات الأصوليّة، أنظمةً وتنظيمات، يبقى أن سمة التجرّؤ على المتفّق عليه، ووجود بديل افتراضيّ له، قاسمان مشتركان بينهما. فعلى غرار الموقف النازيّ الذي نظّر لرفض الديموقراطيّة وجاهر به، أو بنى تبويبه للعالم على مقدّمات عِرقيّة صريحة، ذهب الأصوليّون بعيداً جداً في نفي ما غدا ثوابت سياسيّة أو ديبلوماسيّة أو ثقافيّة. هكذا دشّن النظام الخمينيّ عمله بالسطو على سفارة، ولم يتورّع النظام الطالبانيّ في أفغانستان عن تدمير معالم حضاريّة، كما لم يعترف «حزب الله» اللبنانيّ بالحدود الدوليّة، فيما تعود بنا القوى الأصوليّة في العراق الى سيرة قطع الرؤوس. والسلوك هذا إنما يستند الى نوع من التنميط الذاتيّ المتجرّئ الذي يجعل أتباع الأصوليّات وتابعاتها يميّزون أنفسهم في الملبس والمظهر، علماً أن التنميط عمل عدوانيّ يأتي من خارج الظاهرة نفسها، على ما كانت حال النازيّة حين فرضت النجمة الصفراء على اليهود الأوروبيين. فحينما يبادر طرف ما، متطوّعاً، الى تنميط ذاته، نكون أمام حالة رفض عنيد للآخر، يردّ عليها الآخر برفض من الطينة إيّاها.