بير رستم

كانت ومازالت الأرض والجغرافية واحدة من أهم عوامل الصراع والنزاعات بين بني البشر؛ فمنذ الإنسان البدائي وبحثه الدءوب عن الطريدة الفريسة ومروراً بالحياة الرعوية والزراعات الأولية لتلك التجمعات البشرية البدائية والتي سنعرفها لاحقاً باسم القبائل والأقوام وأخيراً الحضارات وصولاً إلى مجتمعاتنا ودولنا الحديثة، والإنسان يصارع أخيه الإنسان على امتلاك الجغرافية ليوسع من دائرة نفوذه. بل إن الجغرافية أصبحت واحدة من أهم عوامل تكوين الشخصية والهوية لمجموعة بشرية ما والتي تعرف اليوم باسم الوطن والوطنية وخيانته تعتبر من "أعظم" الخيانات؛ لذلك لن تجد من يتجرأ ويقول "سأخون وطني" إلا ذاك الذي أكتشف أن الوطن قد خانه.

وسوريا كأرض وجغرافية ومسمى قد سبقت هذه المكونات والمسميات الحالية والتي تتعايش وتتجاور عليه بزمن طويل؛ فالدكتور وديع بشور يذكر في كتابه "أساطير آرام" بأن أسم سوريا هو أسم أحد آلهة الحثيين؛ من الشعوب الهندو-أوربية، وهم أطلقوها على هذه الجغرافية الجديدة وذلك إبان غزوها ومن بعد أن كانت تعرف باسم بلاد آرام؛ أي أنهم بدلوا التسمية القديمة لها باسم أحد آلهتهم وذلك في مرحلة تاريخية لم يكن للكورد والعرب، المسلمين والمسيحيين، السنة والعلويين، البارتيين والبعثيين من ذكر أو حضور في التاريخ والجغرافية، بل كانت هناك مكونات ومسميات أخرى كالسريان والآراميون والميتانيين وغيرهم وما هذه المكونات الحالية في سوريا إلا نوع من التمازج والتماهي مع تلك المكونات وفي بعض الأحيان وافدة عليها.

هذا من الجانب التاريخي ولكن الواقع على الأرض يفرض نفسه؛ فلا يمكن لذي بصيرة أن يتنكر ما هو كائن اليوم ولا يمكن لأحد أن يدعي بأنه يجب طرد كل من الكورد والعرب كونهم وفدوا إلى هذه الجغرافية واستولوا على الحضارة السورية القديمة وأصبحوا ورثتها "الغير شرعيون"، فالحياة الرعوية القبلية ومسائل الغزو والإغارة كانت سمة الحياة في تلك المراحل؛ بل إن سوريا اليوم، مثلها مثل غيرها من الجغرافيات، تعرف بهذين المكونين الأساسيين إضافة إلى مكونات أخرى، وبالتالي لا يمكن القفز على هذه الحقيقة الراهنة وتحت أي ذريعة أو تسمية جديدة كمفهوم "الأخوة في الدين" قديماً ومفهوم "الأممية" في مراحل لاحقة واليوم تحت مفهوم "الوطنية" السورية ولذلك وإذا أردنا أن نتعايش بأمان وسلام وأخوة حقيقية في هذه الجغرافيات، فما علينا إلا الإقرار بهذه الحقائق.

أما محاولات اللعب على الألفاظ والآخرين فلا نعتقد بأنها ستجدي نفعاً، بل ربما تجرنا إلى مواقع أكثر كارثية مما نحن فيه؛ وإن تجربة البلدان الاشتراكية وعلى رأسهم الإتحاد السوفيتي "لخير" دليل على ما نقول: إن الدولة السوفيتية ومن خلال الأيديولوجية الواحدة والحزب الواحد، أرادت أن تمحو الهويات المتعددة والأولية لشعوبها وأن تستبدلها بالهوية السوفيتية الشاملة كوطن يضم الجميع، ولكن المأساة والكارثة كانت بانتظار الجميع؛ فبدل الحفاظ على هذه الهوية الجديدة والدفاع عنها، لاحظنا أنه، وفي أول فرصة سنحت لهم، تحولوا من "أخوة" الأمس إلى "أعداء" اليوم. وهكذا فلا يمكن أن تجبر التاريخ ومسيرة الشعوب وتطورها لإرادات الأيديولوجيات والعقائد؛ فإن لحركة التاريخ مساراتها الطبيعية وعلينا الإذعان لإرادة الشعوب ومراحل تطورها الطبيعية وعدم اللجوء إلى سياسة "لي العنق" ليتناسب الآخر؛ مهما كان ذاك الآخر، مع مقاسات أيديولوجياتنا العقائدية الدينية المذهبية والسياسية الحزبية أو الأثنية العرقية.

إن هذه الآراء والحقائق ليس إلا رداً على تلك الأصوات والأقلام والتي نسمعها وهي تطنب وتمجد وتدعو لمفهوم الوطنية الجغرافية؛ إن كانت سورية أو عراقية أو أسترالية أو .. وتريدنا أن نرفعها كهوية واحدة تجمعنا جميعاً، وبالتالي نتخلى عن بقية الهويات الأخرى والتي يمكن تسميتها "بالهويات النواتية أو الجنينية" وذلك من دينية وعرقية ومذهبية و.. والتي هي سابقة لهذه الهوية الأخيرة المرتبطة بالجغرافيات الحديثة التشكيل؛ فالحدود الدولية لم تعرف الاستقرار بعد. هذا من جانب ومن الجانب الآخر فإن هذه الهوية الجديدة؛ "الوطنية الجغرافية" هي من ناحية "صنيعة" استعمارية كما تدعيها تلك الأصوات نفسها والتي تنادي بها؛ فمعلوم للجميع بأن سوريا الحالية ليست هي سوريا القديمة والتي كانت تضم كل بلاد الشام، بل أن حدودها رسمت حسب اتفاقيات سايكس-بيكو وغيرها من الاتفاقيات الاستعمارية ومن الناحية الأخرى وللأسف نلاحظ بأن هذه الهوية الجديدة ما هي إلا شكلاً آخراً لعمليات الصهر والذوبان "للأقليات" الدينية والعرقية والسياسية ضمن الأكثرية الغالبة. بصريح العبارة؛ ما هذه إلا واحدة من أساليب الاستلاب للآخر وبديلاً عن "الأممية" الدينية والأيديولوجية الماركسية وإصباغنا مرة أخرى باللون والثقافة والهوية العربية.

ولذلك فلا يمكن أن نكون سوريين حقيقة إلا بعد أن نكون مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة، عرباً وكورداً، بعثيين وبارتيين و.. وهكذا نكون قد تجاوزنا حالة "الأنا" المقهورة والمكبوتة أو ما سميناها "بالهويات الجنينية" وعندها فقط وبعد أن نتشبع من هذه الهويات البدائية الأولية ولا نخاف من هيمنة الآخر وأطماعه في سلبه لنا ولخصوصياتنا، فإننا سندخل عصر المدينة والمدنية حقيقة وسوف نقبل بهذه الهوية الجديدة و.. وعندها فقط، ستكون سوريا وطناً جغرافياً لكل مكوناته وستكون الهوية السورية هوية تجمعنا جميعاً، مع العلم أن هذه سوف لن تنفي خصوصية الأقاليم المكونة لسوريا المستقبلية، كما هو حاصل اليوم في العراق المجاور بإقليميه العربي والكوردي.

وهذه؛ أي كل من الانتماء إلى الجغرافية الكوردستانية من جهة ومن الجهة الأخرى الجغرافية السورية، ليست ازدواجية في الانتماء كما التبس على البعض واتهمنا بها، بل إن القصور الفكري لديهم و"شواذهم" أو الأصح شذوذهم أعماهم عن رؤية الواقع الكائن في العديد من الجغرافيات العالمية وكمثال عليه نؤتي بالجغرافية الأوربية؛ فمن جهة يجد الإنسان الفرنسي أن له انتماءً وطنياً جغرافياً في الدولة الفرنسية ولكن هذه الحقيقة لا تنفي وجود حقيقة انتماءه إلى جغرافية أشمل وأكبر رقعة ونفوذاً ألا وهو الانتماء إلى الإتحاد الأوربي، وإن كان هناك من يجد بأن مثالنا بعيد عن المقارنة مع وضعنا السوري، فإننا نؤتي بعلاقة إقليم الكيبك والشعب الكيبي مع الدولة الكندية؛ فهم من جهة كيبكيين ومن جهة أخرى كنديين، وإننا لنطمح أن نحقق هذه المعادلة في بلداننا. ونعتقد أن المشروع الإنساني الجديد، ولن نقول الأوربي أو الأمريكي، قد وصل إلى هذه الحقيقة مؤخراً وهو يعمل عليه؛ أي أنه يفتت تلك الهويات الشاملة والقسرية ليعيد تركيبها على أساس الاختيار الطوعي والإرادة الحرة و.. ومن دون أن ننسى أن الجانب المصلحي – الاقتصادي كان وما زال العامل "والدينامو" الفاعل في حركة التاريخ.