بعد خمسين عاما من النضال سقط جورج حاوي شهيدا كما يسقط الرجال الرجال، وعينه على وضع اليسار والوطن والمقاومة والعروبة التقدمية وفلسطين والعلاقات الندية اللبنانية السورية. كان وضع اليسار يقلقه ويشغل باله حتى آخر عشاء في حياته، فالتفكك حاليا هو ما يسم واقع اليسار اللبناني في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي والوصاية السورية على لبنان والاندحار الاسرائيلي من لبنان وأحداث الحادي عشر من ايلول والحرب الاميركية البريطانية على العراق والتمديد للرئيس إميل لحود وصدور القرار 1559 وخروج القوات السورية واستخباراتها من لبنان بعد اغتيال الرئيس الحريري وانقسام اللبنانيين بين تكتلين كبيرين: الثامن من آذار والرابع عشر منه. وقد شهد لبنان بعد ذلك كله اغتيالات ومحاولات اغتيال طالت شخصيات بارزة: سمير قصير، جورج حاوي، جبران التويني، الياس المر ومي شدياق، ما جعل لبنان نقطة تجاذب دولي واقليمي: الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا واسرائيل ضمنا وايران وسوريا وفلسطين.

على قاعدة هذا الواقع، بدئ بمحاولات بناء الدولة امنيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا الخ... وراح كل تكتل لبناني يسعى الى تحسين موقعه في مواجهة الخصوم في الداخل والخارج. والتحقت أطراف اليسار وفلوله بالتكتلين الكبيرين وبمنبر الوحدة الوطنية <القوة الثالثة> وحافظ بعضها على استقلالية هي محط شبهة عند اطراف يسارية اخرى. غير ان الجميع يدعون العمل من أجل لبنان حاضرا ومستقبلا، حتى غدا اليسار مفهوما ملتبسا في واقع التحالفات القائمة والظروف اللبنانية الملموسة حيث الوطن لا يزال منظورا اليه بعيون الطوائف ومصالحها الفئوية الضيقة.

مبدئيا، اليساري اللبناني، رغم المتغيرات، معارض بامتياز لا كسائر المعارضين، فهو مناضل فكرا وممارسة من اجل التغيير الديموقراطي الحقيقي والسيادة والاستقلال ومقاومة مشاريع الولايات المتحدة واسرائيل ورفض أنظمة الاستبداد والتبعية العربية وكل محاولات الالحاق والوصاية خلافا لإرادة اللبنانيين، وهو الساعي بموضوعية الى علاقات ندية تكاملية مع سوريا كحاجة لبنانية أولا، وهو العامل بلا هوادة على ترسيخ وتمنيع الوحدة الوطنية بالقوانين والمؤسسات والثقافة الجامعة، وعلى تطوير دولة الرعاية بأفق ديموقراطي علماني حيث الديموقراطية بأوسع وأعمق معانيها تعني العدالة الاجتماعية حقا، اي الاشتراكية الجديدة. وهو الواقف بحزم في وجه الخطة الرامية الى تغيير جوهري في وظيفة الدولة (الدولة الشركة) حيث تتقاطع مصالح بعض القوى الاجتماعية وتعليمات بنك النقد الدولي على قاعدة نهج ليبرالي جديد متفلت من أية ضوابط لخلق هوامش لاستغلال بلا حدود. واليسار مفهوم يتسع لأوسع ممن يتخذون من الماركسية سندا فكريا، فالمسلم الحقيقي او المسيحي الحقيقي (لاهوت التحرير) يمكن ان يكون يساريا في موقعه الاجتماعي وموقفه ضد الاستغلال والظلم الناجمين عن تجليات الرأسمالية المتوحشة، فمن هذه الاخيرة تتبدى ملامح من اللاإنسانية والعودة بالكثير من القيم قرونا الى الوراء لإعادة إنتاج أشكال جديدة من العبودية. وتلك بعض مساوئ العولمة في عصرنا الراهن.

قبيل تشكل تكتلي الثامن والرابع عشر من آذار وخلاله، توزعت أحزاب وقوى اليسار في هذين التكتلين وخارجهما: فالحزب التقدمي الاشتراكي، وحركة اليسار الديموقراطي والمنبر الديموقراطي وحركة الانقاذ في الحزب الشيوعي اللبناني انخرطت جميعها في الرابع عشر من آذار، ورابطة الشغيلة في الثامن من آذار، بينما حافظ الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وحركة الشعب والتنظيم الشعبي الناصري على استقلالية نسبية مع ميل راجح الى الثامن من آذار. ان هذه القوى اليسارية بوجه عام قد دعت الى انسحاب القوات السورية من لبنان او الى اعادة تموضعها وفق الطائف بعد الاندحار الاسرائيلي على يد المقاومة، وذلك تحت عناوين مختلفة وبأصوات خجولة او مرتفعة. بعض اليسار كان قد رفع التناقض مع الوجود السوري الى مستوى التناقض الرئيسي واتخاذ بعض اليسار ايضا مواقف ليست من عالم اليسار في شيء كدعوة الولايات المتحدة الاميركية الى احتلال سوريا لإسقاط النظام السوري والتصريح بأن اسرائيل ليست عدوة... وتلك سياسات ومواقف بعضها يحتاج الى مراجعة نقدية او تصويب.

لقد كان مفهوما ومبررا ومطلوبا من الأكثرية الشعبية ولمصلحة لبنان وسوريا في آن، ان ينخرط من انخرط من اليسار في انتفاضة الرابع عشر من آذار الى جانب معظم قوى اليمين اللبناني، توسيعا وتوحيدا وتزخيما بدائرة الضغط من أجل رفع الوصاية السورية المباشرة والخلاص من نهجها الخاطئ الذي طغى على الوجه الاخوي الايجابي وأساء لجميع العروبيين التقدميين الحالمين في التكامل مع سوريا او في الاتحاد العربي بدءا من لبنان وسوريا. ويتدرع بعض أهل اليسار بأن بقاءهم في هذا التكتل تحتمه طبيعة المرحلة حيث ان اللبنانيين لا يزالون في مرحلة الاستقلال غير الناجز. بينما تحتفظ سوريا بتأثيرها القوي في لبنان، مباشرة او بالواسطة. انه منطق شديد التهافت، ذلك الذي يؤجل الشروع بإعادة بناء الدولة الى ما بعد انحسار التأثير السوري على لبنان او فيه. ان من الوهم انتظار زوال هذا التأثير ولو تغير النظام في سوريا، ومن الوهم ايضا بناء الدولة في لبنان بمعزل عن أخذ التأثير السوري الموضوعي بعين الاعتبار، تلك هي حقيقة، والحقيقة الثانية هي ان معركة الاستقلال الناجز وإعادة بناء الدولة معركة واحدة مستمرة تخاض على محاور مختلفة خلالها وبها يتعزز وضع الاستقلال والسيادة ويتبلور اكثر فأكثر شكل الدولة ووظيفتها وطبيعة النظام فيها، ونقطة الانطلاق قانون انتخابي نسبي عادل وواسع التمثيل...

ان بناء الدولة هو حقل تتجسد فيه مصالح القوى الاجتماعية، تقريبا، بنسب قوتها وثقلها في ميزان القوى الفاعلة، ومصالح الدول المؤثرة في هذا البناء، فسوريا وايران وأميركا وفرنسا واسرائيل والسعودية ومصر وفلسطين حاضرة بشكل ما في هذا البناء، علما بأن الورقة الاصلاحية المعروفة التي جرى التصدي لأهم بنودها بتظاهرة العاشر من أيار تقدمت بها جهات هي من قلب الرابع عشر من آذار، وهي تحمل بصمات ونصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الجاهزة لكل بلد يجري إغراقه في المديونية العالية، وهي بمجملها تتعارض مع مصالح الأكثرية الشعبية في لبنان بما فيها قواعد الرابع عشر من آذار. والحكومة اللبنانية لم تنتظر زوال التأثير السوري في لبنان وعليه لتباشر إعادة بناء الدولة في غياب سلطة الوصاية المباشرة.

ومن المعلوم ان المؤثرات الخارجية القريبة والبعيدة ليست فقط ما يعيق بناء الدولة بالوسائل المختلفة ويحول دون طموحات اللبنانيين في هذا المجال، فالطوائف اللبنانية هي بمشاريعها الخاصة أهم العوامل المعيقة لبناء الدولة، فلبنان بات وطنا تأكله طوائفه كما تأكل صغار العناكب أمّاتها (جامعات ومدارس طائفية ومذهبية، أحزاب ومستشفيات ومرافق ومؤسسات مقفلة جميعها على أبناء المذهب الواحد، ومجالس مذهبية تعمل في حقل السياسة اضعاف ما تعمل في الدين وهي بمجموعها متاريس الطوائف في مواجهة بعضها البعض)، فإذا الوطن المنشود، وطن الحرية والمحبة والمساواة والمواطنة والكفاءة والحوار والتواصل والتفاعل، يراد له ان يكون وطن التعصب والحقد والحذر من الآخر وعليه. وهكذا يصير الوطن اصغر من مجموع طوائفه ومساحته، وتصير الدولة اضعف من اي طائفة فيه. تلك حالة مرضية بامتياز، فالتطرف للبنان مقتل والاعتدال عافية ومن الخطأ في الواقع والسياسة ان يبني البعض مواقفه كأن لبنان جزيرة في وسط المحيط الهادئ. واللبنانيون باستمرار معرضون لنتائج هذا التعقيد الداخلي وهذا الكم من التأثير الخارجي، ومن المهم ان يترافق وعينا لهذا الواقع مع الاجابة في كل مرحلة عن اسئلة: من نحن في خارطة مصالح بعض الشرق وبعض الغرب؟ وهل أحد يحبنا ويغار علينا مجانا؟ يجب ان نحدد ماذا نريد وما هو الافضل والممكن في ما نريد كي يكون لنا وطن أقوى من طوائفه، فلا يجوز ان يستقوي على الدولة والوطن بعض داخله، او ان يستمر الوطن مساحة يضعف سواه فيها سواه.

لا أظن ان يساريا حقيقيا يمكنه، موقعا وموقفا، ان يقف متفرجا على تنامي خطر مشاريع الطوائف والتدخلات الخارجية على حاضر ومستقبل الوطن، وان يخالف سعي الاكثرية الساحقة من اللبنانيين الى تعزيز دولة الرعاية للحد الاقصى: الوظيفة الدائمة المحصول عليها بالقانون والكفاءة، تعليم رسمي واسع الانتشار ومتطور، ضمانات صحية وتقديمات اجتماعية وضمان شيخوخة وضمان بطالة الى جانب وقف الهدر والمحسوبيات ومحاسبة الفاسدين والمختلسين واعتماد مبدأ الضرائب التصاعدية العادلة. باختصار بناء دولة يكون فيها الكثير من الديموقراطية بحيث تقوم على حساب دولة الطوائف التي تحمي ما شهد لبنان بنظامه الطائفي من أنواع الفساد. لله ما أكثر مغاور علي بابا في هذا النظام!!

بناء على هذا الفهم وهذه الرؤية، يصبح موقع الاحزاب وقوى اليسار في تكتل الرابع عشر من آذار غير مفهوم لشدة التباسه، ما يجعل الاصرار على البقاء فيه وتبني مواقفه بعد خروج السوريين من لبنان، امرا لا يفسر بغير الانتقال الى الموقع الآخر، او الارتهان المصلحي او الممارسة الخاطئة. ان بعض اليسار يركب قطار اليمين فيقوده هذا الى حيث يشاء في بناء الدولة شكلا ومحتوى ونظاما ووظيفة، ولا ينفع في هذا السياق زعيق بعض البيانات الاستدراكية الشاهدة على بقية من التمايز. فمن هو الأقوى في هذا التحالف؟ ومن يقود من؟ ومن يقرر في نهاية المطاف؟ فهل غيّر وجود الحزب الشيوعي السوري مثلا في قرارات الجبهة الوطنية والتقدمية التي يقودها حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا؟ مثل هذا اليسار مثل اليسار المنخرط في تكتل الثامن من آذار، او المتواجد على أعتابه وضفافه. والسؤال الآن: إذا كان موقع بعض اليسار في هذين التكتلين الكبيرين المقررين، فهل يكون موقفه متعارضا مع موقعه في معارك بناء الدولة؟

إن نقاط التلاقي بين مختلف فصائل اليسار اللبناني كثيرة وجوهرية ما يجعل ممكنا قيام تكتل يساري لبناني مستقل له برنامجه المميز الواضح الذي يعكس مصالح وتطلعات اكثرية الشعب اللبناني في الديموقراطية والحرية والوطنية والاقتصاد والاجتماع والأمن والدفاع والثقافة. وليس بقليل الفائدة في هذا السياق تذكير من تناسى او خانته الذاكرة بقوة اليسار اللبناني، منذ المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني وحتى اتفاق الطائف وبدء مرحلة الوصاية السورية المباشرة. ولعل صيغة الحركة الوطنية اللبنانية التي قادها الشهيد كمال جنبلاط ولعب دورا اساسيا في قيادتها ايضا الشهيد جورج حاوي ومحسن ابراهيم، قد شكلت ببرنامجها المرحلي الموحد مصدر قوة يحسب لها شعبيا ورسميا كل حساب. وقد انعكس ذلك في عدم قدرة اتفاق الطائف على تجاهلها.

ان هذه القوة ناجمة عن وضوح ذلك البرنامج وعن تميزه واستجابته لمصالح الناس والوطن وعن تلك الوحدة التي دفع ثمنها أولا الشهيد كمال جنبلاط ولاحقا الشهيد جورج حاوي الذي اغتيل انتقاما من دوره السابق وخوفا من دوره اللاحق. فإلامَ، والعبرة هذه والحالة هذه، يظل هذا اليسار على اختلاف مكوناته ملحقا بمشاريع تعمل على اعادة انتاج وتجديد النظام الطائفي وربما التأسيس لحروب أهلية في ظل واقع المنطقة المتفجر وما يحاك لها من مخططات التفتيت والفوضى تحت عناوين مختلفة بالغة التضليل.

في الذكرى الاولى لاستشهاد مؤسس جبهة المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي، القائد الوطني العربي الأممي من غير تناقض، جورج حاوي، نتساءل: أين وحدة اليسار اللبناني وبرنامجه المرحلي؟ ان ذكرى جورج حاوي بما أعطى للبنان والعروبة والمقاومة وفلسطين تستحق العمل السريع لاخراج اليسار من أزمته. الصعوبات جمة والهدف كبير، ودون ذلك قناعات مستحكمة ومصالح وعلاقات. فما بدا منها الآن مستحيلا قد يصير ممكنا بعد حين. ولعل الحزب الشيوعي اللبناني بما له من استقلالية عن التكتلين الكبيرين وبما له من تاريخ وتقاليد في جمع قوى اليسار، مدعو اكثر من سواه للمبادرة الى نقاش واسع وعميق مع جميع اطياف اليسار، من دون مكابرة او عقد، وانطلاقا من كون الحزب، وضعا ودورا وحضورا، ليس بألف خير وان اليسار كيسار يكاد الناس لا يشعرون بوجوده لأنه تابع ومغيب الدور والموقف بنتيجة تفككه. فهل تبنى دولة ديموقراطية من دون دور وموقف وبرنامج مميز للقوى اليسارية الديموقراطية؟

ان النضال من أجل توحيد اليسار مسؤولية وطنية كما ان برنامج اليسار الديموقراطي الموحد حاجة شعبية لاستقطاب الناس وتأطيرهم في معركة الاستقلال والسيادة وبناء دولة الرعاية وللخروج من الدائرة الاميركية والدائرة السورية اللتين يتراشق بهما اطراف الثامن والرابع عشر من آذار، والانفتاح على سائر التكتلات الوطنية وفق مقتضيات المهام الملموسة المحددة. ان هذا كله ملحّ وضروري من اجل إحداث اختراق نوعي في وعي الناس المتجاذب راهنا بين هذا التكتل او ذاك، والسمة المحددة فيه هي الطائفية او المذهبية. ان شبان لبنان بحاجة الى فكر يجمع شعبنا ويعزز روحية التواصل والحوار والتفاعل بين جميع مكوناته. فهل أنا واهم في دعوتي هذه لتكون الثقة في غير مكانها وزمانها؟ من حقي ان أحلم بواقعية وان أتفاءل.