أهم ما يميز الفساد هو وضوح صورته داخل "المؤسسات"، وضبابيتها في تصرفات الأفراد أو في القيم الاجتماعية. وربما علينا ان نصحح الكثير من التعريفات السائدة عن هذا المصطلح، لأن ظهوره داخل المؤسسات هو في النهاية نتيجة وليس سببا، دون ان يعفي ذلك مؤسسات الدولة من مكافحته. وعندما تبدو المطالبة بالشفافية فإن المقصود هو إغلاق الهوة ما بين المواطن والدولة الحديثة .. أو إنهاء حالة الفصام التي تحكم المواطن بين ولاءه للدولة المعبرة عن مصالحه وبين انتماءاته القديمة.

ربما كانت هذه المسألة حالة طوباوية .. لكن القراءة توضح أن مسألة الفساد تعود في جذرها إلى عدم الانسجام في القيم ما بين مفاهيم المواطنة الحديثة والانتماء إلى القيم التراثية .. فالحياة المعاصرة لا تدع مجالا اليوم للفصل ما بين الدولة والمواطن، بينما كانت الدولة على طول تاريخنا التراثي "خلافة" ثم "سلطنة" ثم "انتداب" .. بهذا الشكل لم تكن تعني الدولة سوى "راع" مسؤول عن "رعيته"، بينما تنقلب الحالة في المفهوم المعاصر لأن المواطن هو الذي يرعى الدولة ويصونها لأنه المكون الأساسي فيها.

الفساد المشوش هو في قدرة أي فرد على استهلاك الصالح العام .. والفساد المخفي هو في عدم قدرة منظومتنا المعرفية في إنتاج قيم جديدة تحيل الفساد إلى مسائل واضحة، ولا تقسرها على علاقات غيبية يدخل الإيمان فيها. ففي النظام التراثي الفساد هو نوع من الحرام، بينما داخل الدولة المعاصرة هو إساءة لقيم الحياة يحاسب عليه القانون.

وإذا كنا هنا نخرج بعيدا عن ارتباط الفساد بنوعية نظم الإدارة، فلأن أي إدارة مهما كانت معاصرة يمكن ان تصبح عديمة الجدوى إذا لم تنسجم قيم الأفراد معها. فالإدارة وإن كانت نظاما ملموسا لكنها في النهاية تنبع من اعتناق الفرد للقيم المعاصرة، وليس غرقه في "الحرام" و "الحلال" الذي يحكم علاقة الفرد بربه ولا يرتبط بعلاقة الفرد بالمؤسسة.

الإحساس بالمواطنة مسؤولية الدولة، وهذا امر لا جدل فيه، ولكن يمكن ان تظهر المواطنة وسط عدم القناعة بان الحياة المعاصر هي الأفضل، وهي شكل العلاقات التي يحكمها القانون وليس أمام المسجد .. وهي المعرفة المنبثقة من العلوم الحديثة وليس من الكتب الصفراء ..

الفساد والقيم الاجتماعية مرتبطة اكثر مما نتصور .. والفساد داخل الثقافة الاجتماعية مؤشر على عدم الانسجام ما بين متطلبات الحياة الحديثة والنظام المعرفي للأفراد و ... العلم اعلم ...