لم تتوقف آلة القتل في العراق بعد تصفية «أبو مصعب الزرقاوي». فالقتلة تكاثروا، كأن الوضع السياسي - الأمني المتخبط يستولدهم ويحضهم ويعدّهم للمهمة القذرة. كل عراقي يسقط ضحية، أياً تكن طائفته، يتحول فوراً إلى وقود للمقتلة المستمرة. وكل عراقي يسقط يؤسس لمشروع ثأر، والدوامة تدور، حتى بيانات الأطراف السياسية باتت تعبر عن واقع نفسي تقوده آلة الموت، فلم تعد تتحدث عن «تحريم» القتل بل تكتفي بإدانته، معترفة بأنه تجاوز رغبتها في الانضباط أو قدرتها عليه. قليلة ومعروفة تلك القوى السياسية التي لم تدخل تجارة الجثث والأرواح، القوى الأخرى كلها متورطة بل مندفعة في هذا الخطأ «الوطني» الفادح، الكل يتبرأ من «القتلة والإرهابيين» فَمن يقتل مَن إذاً؟ ومَن يخطف العشرات ثم العشرات من المواطنين الآمنين ليعيدهم أجساداً مشوهة ومُمثلاً بها؟

ليس معروفاً كم من الوقت يلزم كي نشهد تصحيحاً ملموساً لـ «الأمن الرسمي» فيمكن تمييزه واستبيان دوره وتأثيره. الأخطر أنه ليس معروفاً أيضاً كم من الوقت يلزم كي نرى تطبيقاً لـ «مشروع المصالحة والحوار الوطني» الذي أعده رئيس الوزراء نوري المالكي، ويقال إن لديه مهلة محددة لتنفيذه، أقصاها آخر السنة، وإلا فإنه سيستبدل برئيس وزراء آخر. وليس معروفاً كذلك إذا كان المالكي وحكومته يعولان على مؤتمر المصالحة الذي تبنته الجامعة العربية وتعد الآن لعقده استئنافاً للقاء الذي عقد أواخر 2005 في القاهرة.

لكن ما يحيّر أن سلطة الاحتلال الاميركية التي كانت شجعت مبادرة الجامعة العربية لم تعد تبدو متحمسة لها، وفي الوقت نفسه يؤكد الوسط السياسي في بغداد أن الجانب الاميركي هو الذي أرجأ إعلان مبادرة المالكي، وبالتالي أرجأ بدء العمل بها، مع أنه هو الذي حدد له مهلة لتحقيق المصالحة. هذه المواقف المتناقضة ليست جديدة على الاميركيين، لذا يصعب تحديد ما يريدونه، الأكيد أنهم يسعون إلى جعل الجميع يتحركون وفقاً لخطتهم، لكن ما هي خطتهم؟ الأرجح أنهم هم أنفسهم لا يعرفون. فمرة يلوحون بأن لديهم رؤية لتطبيع الوضع مع السُنّة، ومرة أخرى يشيرون إلى أنهم يفضلون مواصلة الاعتماد على الشيعة بشرط أن يحصلوا على تعاون إيراني. أي خطوة هنا وخطوة هناك، تجريب هنا وتجريب هناك، لكن المؤكد أنهم لا يرتاحون إلى مصالحة حقيقية.

الأفكار التي طرحت على أنها مشروع المالكي للمصالحة تحدد المطلوب فعلاً، إلا أن التحفظات التي أبديت حيالها كفيلة بإجهاضها. ولعل الجدل الذي أثير حول «العفو عن المعتقلين» - وهو ما أغضب الأميركيين - لا يشكل جوهر المعضلة، فهذا «العفو» لم يصدر بعد، ثم إنه جزء من كل ولا يعتبر وحده عماد المصالحة ومؤداها. فمن الواضح أن مشروع المالكي يتحدث عن تعديل الدستور وتصويب عمل «هيئة اجتثاث البعث» وإبعاد القوات المسلحة عن الاستقطاب السياسي وإعادة عدد من الضباط السابقين إلى الجيش. هذه نقاط جريئة ولابد منها إذا كان الهدف هو المصالحة. لكنها تفتقد إلى إجماع واضح داخل الحكومة أو داخل صفوف بعض القوى السياسية التي كان لها دور بارز في ارتكاب أخطاء مسيئة للوحدة الوطنية.

يمكن لمشروع المالكي أن يكون مكملاً لـ «المصالحة» التي ترعاها الجامعة العربية، أو برنامجاً تنفيذياً لها. لكنه في الوقت نفسه قد يتطلع إلى تحقيق رغبة بعض القوى في الاستغناء عن دور الجامعة. أما أسوأ السيناريوات فهو أن يكون مشروع المالكي مجرد سعي شكلي لا يجمد ما يجري على الأرض من تقسيم فعلي، ولا يزعجه، فمع افتراض حسن النية لدى الحكومة، ولدى رئيسها، لا توحي ممارسات الميليشيات بأنها تتوقع مصالحة وطنية في المدى المنظور.