بير رستم

هل الكائن ابن البيئة أم الجينات الوراثية؟ وما علاقة وتأثير كل منهما في رسم ملامح الشخصية المستقبلية لدى الفرد، وأيضاً في رسمها وتحديدها لمواقفك وقرارك ومدى تأثيرك وفاعليتك على الآخر وفي المحيط، وأيضاً مدى قدرتك على التلاؤم مع الظروف واستخدامك آليات الدفاع الذاتية؟ إننا سنحاول من خلال هذا المقال وفهمنا لهذه النظرية العلمية أن نستشف ملامح الشخصية الكوردية وبالتالي أن نفسر تلك الآليات السيكولوجية والتي تمارسها هذه الشخصية إن كان مع الداخل؛ الذاتي، الأسروي، الكوردي أو مع الخارج والآخر؛ "عدواً" إن كان ذاك الآخر أو صديقاً. ولربما ومن خلال معرفتنا لشخصيتنا ومدى إمكانياتنا المادية والمعنوية وفاعليتنا وتأثير قراراتنا وآرائنا في الآخر والمناخ الذي نتحرك فيه، نستطيع أن نحدد مواقفنا وبالتالي نرسم ملامح وطرق وأساليب تعاملنا مع كل من هذا الآخر والبيئة؛ فالعلاقة دياليكتيكية دينامية وباتجاهين.

من المعلوم في علوم تربية الطفل وسلوكية الإنسان؛ إن السنوات الخمس الأولى من حياة الكائن البشري، والتي عادة نهملها ولا نوليها الأهمية اللازمة، هي من أهم المراحل والتي تؤسس عليها ملامح شخصية الإنسان المستقبلية، أو على الأقل تُحدد الملامح الأساسية لشخصيتنا في تلك السنوات الخمس الأولى. وإذا عدنا إلى واقعنا الشرقي إجمالاً وعلى وجه الخصوص الواقع الكوردي، سوف نلاحظ بأن المناخ التربوي وبشكل عام يحدد من خلال مجموعة عوامل والتي يمكن أن نلخصها في الحياة الاقتصادية والتي هي دون خط الفقر للأغلبية المطلقة للشعب السوري عموماً والكوردي على وجه التخصيص، وأيضاً الجهل والأمية المتفشية بين هذه الغالبية المطلقة وغياب الدور الحقيقي والسليم للمؤسسات التربوية وندرة أو غياب الكادر المتخصص في مسائل تنشئة وتربية الطفل والتي من المفترض أن تكون رياض الأطفال والمدارس هي الحاضنة أو البدائل عن الأسرة في مجتمعاتنا المتخلفة.
وهنا لا يمكن أن نهمل دور الدين والأفكار والمعايير الأخلاقية للإسلام وما تلعبه من دور "مهم"، بل يمكن أن نعتبره أهم عامل على الإطلاق في رسم ملامح الشخصية في العالم الإسلامي؛ فمنذ الولادة وأنت تلقن بتلك القيم والأخلاقيات وهي حاضرة في كل المسارات والنواحي الحياتية وحتى في الجزئيات والتفاصيل منها، أي أنك تولد مع صوت المؤذن وهو يسمعك "الله أكبر" وتتزوج من خلال مباركته وتموت وهو يتلو عليك "آياته الحكيمة"، وهكذا فأنت محاصر ضمن هذه الحلقة المغلقة للفكر الإسلامي. وعندما نأخذ بعين الاعتبار الدور الحاسم للسنوات الخمس الأولى من حياة الإنسان وما تلعبه من دور حاسم في رسم ملامح شخصيتنا، سوف ندرك حجم الكارثة وخاصة بالنسبة للأثنيات الغير عربية والتي أدخلت إلى الإسلام قسراً. فنحن جميعاً؛ علمانيين وملحدين ومؤمنين ومذهبيين و.. وفي الأعماق والعقل الباطن، مسلمين بل مستسلمين لواقع جرفنا منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة.

وإذا عدنا ومن خلال تلك الملاحظات والعوامل التي تكون شخصية الإنسان، بالإضافة إلى هذا العامل الأخير والذي يعرف "بالذاكرة الجمعية" عند الشعوب، وحاولنا أن نتعرف على ملامح الشخصية الكوردية، سوف نلاحظ حجم المأساة والتي نعاني منها؛ فمن جهة ونتيجة لعوامل عدة إن كانت ذاتية يتعلق بالكورد أنفسهم وجهلهم وحياتهم شبه الرعوية القبلية ومؤخراً الزراعية والتي كانت ومازالت تفتقر إلى المكننة الحديثة، بحيث جعلت المناطق الكوردستانية عامة تعيش تحت خط الفقر أو التي تتعلق بالشرط الموضوعي من دور وسياسات الأنظمة المتعاقبة في تكريس تلك الحالة وعدم البدء بمشاريع تنموية في المنطقة مما جعل الأمر يتفاقم أكثر وأكثر وأخيراً السياسات الخاطئة لبعض أطراف الحركة السياسية الكوردية. هذه العوامل أفقدت الشخصية الكوردية إحدى مكوناتها الأساسية ألا وهو العامل الاقتصادي القوي والمتين بأن يؤسس شخصية متزنة ومبادرة وجريئة لدى الإنسان الكوردي.

أما العامل الآخر والذي أفتقده الإنسان الكوردي لأن يمتلك تلك الشخصية المتزنة والواثقة من نفسها؛ فهو غياب الوعي وتفشي حالة الأمية الشبه مطلقة بين الكورد ولفترة جد قريبة وبالتالي غابت دور المؤسسات والحركات النهضوية التنويرية بين أبناء الشعب الكوردي؛ فإذا عدنا إلى الوراء قريباً سوف نلاحظ أن جل "حركاتنا التحررية" كانت بدوافع دينية أو قبلية عشائرية وحتى أحزابنا الحالية فهي أقرب إلى الحالة القبلية مهنا إلى الحالة المدنية المؤسساتية، وهكذا غابت تلك العوامل الأساسية في نهضة الشخصية وأيضاً الشعب الكوردي؛ حيث أنه من المعلوم ومن خلال نهضة الشعوب، بأن هناك عوامل ثلاث أساسية ألا وهي؛ الاقتصاد المتين والوعي والكادر المتخصص وتأسيساً عليهما المؤسسات الفاعلة، إن كانت حركات ثقافية سياسية أو فعاليات اقتصادية اجتماعية أو مؤسسات مدنية حقوقية.

إذا أضفنا إلى غياب هذه العوامل الثلاث؛ الاقتصاد والوعي والمؤسسة، ما لعبته وتلعبه الفكر والدين الإسلامي من عملية استلاب للخصوصيات الأقلية وتحديداً للشخصية الكوردية؛ لأنها موضوعة مقالنا، وذلك من خلال هيمنة وسيطرة الإسلام وغزوها لكوردستان أفقد الكورد أحد أهم مكون اجتماعي؛ من اجتماع مجموعة من البشر في رقعة جغرافية معينة والتي نتعرف إليها اليوم بمفهوم أثني عرقي أقوامي وخاصة قبل ألف عام وأكثر، ألا وهو الرابط والعامل الديني؛ حيث استبدل الزرادشتية بالإسلام. وقد كان لهذا التغيير ألقسري على مستوى الفكر والعقيدة تبعاتها النفسية والسلوكية وأيضاً الاجتماعية والأخلاقية، أي بما معناه كان هناك تغيير على مستوى الهوية والشخصية؛ فبدءً من الاسم والمسمى وانتهاء بالدفن والتلقين والموت، مروراً بالجوانب الحياتية العامة من مأكل وملبس و.. تم تعريبها باسم الإسلام وأصبحنا حجازيين أكثر من أهل الحجاز، وكان "أئمتنا الكورد" يفتون على المنابر بقتل الأيزيديين وذلك قبل أن يفتوا بها الأئمة الحجازيين والعرب.

وأخيراً إذا أخذنا عامل "الذاكرة الجمعية" عند ك. يونغ بعين الاعتبار وما يلعبه من دور في نقل الموروث الفكري الثقافي عامة، ومن جيل إلى جيل من خلال الجينات الوراثية، سوف ندرك ما "يبرر" للشخصية الكوردية من أن تكون على هذه الدرجة من الضعف وعدم الثقة بالنفس أو بالتحديد هذه "الشخصية العبدية" من مفهوم العبودية، خاصة إذا لم نغفل تاريخ القمع والعنف والإبادة والجينوسايدات والتي مورست بحق هذا الشعب وعلى مر العصور وتحت يافطات وشعارات مختلفة؛ إن كانت دينية مذهبية أو عرقية أقوامية أو سياسية أيديولوجية. وبالتالي ونتيجة لمجموع هذه العوامل والمناخات التي أحيطت بنا نحن أبناء هذا التاريخ الدامي للشعب الكوردي، وكمثل العبد الذي ولد وترعرع في باب سيده "الآغا"، فلم ولن يتجرأ أن يرفع بنظره إلى وجه "سيده" وكم هو قبيح ومشمئز وضعيف، حتى وإن تغيرت الأجواء والشروط والإمكانيات فهو بحاجة لفترة نقاهة كي يعيد توازنه السلوكي والمعايري. ونحن أبناء الشعب الكوردي ورغم تغير مجموعة العوامل السابقة، إن كانت بهذه الدرجة أو تلك، ما زلنا نعاني من عقدة النقص تلك وإننا بحاجة لتلك الفترة من النقاهة والتي تمر بها قبل الشفاء التام، ولذلك سوف نجد الكثيرين من قيادي الحركة الكوردية وهم يقولون لأصغر ضابط في الأمن أو حتى لشرطي البلدية "أمرك سيدي" مع العلم يجب أن يكون العكس هو السائد.