لم يعرض أحد من الأصدقاء الذين وقعوا بيان " إعلان بيروت-دمشق، إعلان دمشق-بيروت" الأمر علي خلافاً لكثير من المرات السابقة التي شاركت فيها في التوقيع على بيانات ليس آخرها بيان 285 مثقف سوري استنكاراً لاغتيال جبران تويني، حيث غاب توقيعي عن ذلك البيان في بعض المنابر الإعلامية بينما ظهر في منابر أخرى لخطأ تكرر أكثر من مرة أو لسقوط أسمي سهواً كما حصل في لائحة التواقيع التي نشرت في النهار مثلاً!!

المهم لم يعرض أحد علي توقيع إعلان بيروت – دمشق ولو حدث لترددت قليلاً بسبب عدد من العبارات التي أراها ذات إلتباس مطعّم بدهاء يقترب من مراعاة جهة أو نظام بحيث يمكن أطلاق صفة عبارات سياسية مسايسة لأهل القرار في دمشق وحلفائهم في لبنان. لكنني كنت في النهاية أضفت توقيعي إلى لائحة التواقيع وهو الأمر الذي سأفعله اليوم بالرغم من اعتقال أكثر من عشرة مثقفين سوريين بسبب تواقيعهم، ليس من باب الشجاعة أو التهور، لكن لأن القضية تستأهل أكثر من مجرد توقيع، ولأنه ليس عندنا ما نخاف خسارته!

هنا لا بد من العودة إلى التاريخ كما يدعو الأستاذ رياض نجيب الريّس في مقاله في النهار " دفاع عن البيان لا عن الموقعين " يوم 8 حزيران 2006. فتاريخ العلاقات بين البلدين التوأمين سورية و لبنان يذكّر بتاريخ السفرجل " كل قضّة بغصّة".

شخصياً لا يسعني إلا أن أقف ضد إعلان بيروت –دمشق حينما يمرّر بعض العبارات التي دأب النظام و الإعلام السوري المتصلّب على ترديدها , فإذا كان من بين الحجج التي يمكن أن يسوقها كاتب الإعلان هي إحداث توازن في نص الإعلان يراعي كل الأطراف. فلا نعتقد أن أعلاناً ما لجهة معارضة للنظام السوري وبقايا النظام الأمني اللبناني السوري المشترك، يجب أن تضع في حسبانها مراعاة الطرف الخصم او مراعاة ما يقوله إعلامه وابواقه ليل نهار كذباً و غسلاً للأدمغة. وهنا نسوق مثالاً يؤكد ما نذهب إليه: يقول نص الإعلان في البند الأول "احترام و تمتين سيادة و استقلال كل من سورية ولبنان في إطار علاقات ممأسسة و شفافة تخدم مصالح الشعبين وتعزز مواجهتهما المشتركة للعدوانية الأسرائيلية ومحاولات الهيمنة الأمريكية". هل هذا الكلام يمكن أن يجذب الرأي العام السوري واللبناني الموالي للنظام السوري ومن والاه في لبنان؟ ربما أمكن إقناع الرأي العام اللبناني الموالي لسورية بأهمية وتوازن هذا الإعلان عبر هذا البند وما سنعرضه لاحقاً لكن الرأي العام السوري لن يقتنع بأهمية هذا الإعلان لأنه لن يسمع به من الصحافة ولا التلفزيون السوري الذي سيعرض فقط ما يؤيد اعتبار الإعلان والموقعين عليه عملاء لأمريكا و اسرائيل و قد قصدوا من توقيته في هذا الوقت بالذات الضغط على سورية –هكذا حرفياً و تكراراً بذات المعنى – بحسب الصحف السورية الرسمية الثلاث أيضاً. هذا من حيث سياسة النص الموجّه إلى رأي عام. أما من حيث تحليل النص فهو أمر لا يمكن الموافقة عليه لأنه يعيد و يكرر بالضبط ما يكرره النظام السوري منذ سنوات طويلة. والسؤال عن أي مواجهة مشتركة يتحدث كاتب الإعلان ؟ هل يصدق الكاتب أن هناك في العقل السياسي السوري الحاكم شيئاً اسمه مواجهة اسرائيل؟

إذا ً عليه أن يراجع معلوماته و يعود إلى التاريخ – كما يطالب الأستاذ رياض الريس لأمر آخر- و عن أي هيمنة أمريكية يتحدث النص؟ هل يعلم الكاتب أن النظام السوري في عز العقوبات الأمريكية على سورية قد نزع حقوق التنقيب عن النفط السوري من شركة فرنسية و منحها على طبق من ذهب لشركات أمريكية؟ نقول لكاتب نص الإعلان فليعد للتاريخ أيضاً ويقرأ العلاقات السورية الأمريكية التي تقوم على تابع ومتبوع فقط لا غير مهما بدا "الصمود السوري" و مشتقاته الإعلامية و معاركه الخلبيّة. ثم كيف يكون هذا الذي عرضناه "مشتركاً" بين من و من؟ هل الجيش اللبناني هو طرف في صد العدوانية الإسرائيلية، أم حزب الله المعتبر ورقة إيرانية سورية؟ فإذا كان كذلك، وهو إلى حد بعيد كذلك، فكيف يكون طرفاً في موقع الند بينما هو طرف تابع، و الشراكة تقوم على النديّة و ليس على التبعية، وهنا لا تكون مشاركة بل تفرّد في "المواجهة"؟

وفي عين البند الأول يتابع كاتب النص قوله "… و يعلن المشاركون اللبنانيون و السوريون معاً تمسكهم الحازم بالحيلولة دون أن يكون لبنان أو سوريا مقراً أو ممرّاً للتآمر على البلد الجار و الشقيق…". لا نعتقد أن الإعلام اللبناني هو من يطلق اتهامات التآمر السوري على لبنان , لكن من يفعل هو الإعلام السوري وأبواق النظام من موظفيه الكبار. والحجة أن ممثلي الإخوان المسلمين السوريين قاموا بزيارة إلى بيروت والتقوا بعض السياسيين اللبنانيين. ماذا يمكن أن يقول الأعلام اللبناني غير الموالي لسورية عن زيارات بعض السياسيين اللبنانيين إلى دمشق سواء كانت سرية أو علنية وعن آلاف الاتصالات التي تجري كل أسبوع بين التابع و المتبوع أو بلغة احدهم بين العبد و السيد؟ وماذا عن الحملة الصليبية التي يقودها التلفزيون السوري ضد الشعب اللبناني والتآمر على استقراره وسيادته وتحريض الأطراف اللبنانية على بعضها أملاً في إعادة الحرب الأهلية أو انتقاماً من الشعب اللبناني الذي طرد نظام الهيمنة و النهب من بلاده؟ لا نعرف كم مؤامرة جرت على سورية من لبنان، لكن هل يعرف كاتب النص كم مؤامرة جرت انطلاقاً من سورية ضد لبنان؟ إن المؤامرة التي يعرفها الجميع والتي يقودها النظام السوري وأعوانه في لبنان ما زالت مستمرة منذ عشرين عاماً و قد أدت إلى تدمير الاقتصاد اللبناني وتأجيج الصراعات السياسية وزرع أسباب الفوضى عبر تنظيمات مافيوية بشعارات قومية تحريرية ليس تنظيم السيد جبريل سوى مثال بائس عنها.

في الفقرة الثانية من الإعلان وردت العبارة التالية: "..... و استعادة لبنان أرضه التي لا تزال محتلة في مزارع شبعا وكفرشوبا بكل الوسائل المتاحة ....". هنا يخطر لنا أن نسأل هل صواريخ منظمة القاعدة التي أطلقت من جنوب لبنان كما الصواريخ المجهولة التي أعلن الجهاد الإسلامي مسؤوليته عنها ثم تنصّل من المسؤولية هي من ضمن الوسائل المتاحة؟ كان الأحرى بمعدي البيان لو استبدلوا عبارة الوسائل المتاحة بعبارة الوسائل اللبنانية المشروعة كي لا يكون جنوب لبنان ممراً لمشاريع لا علاقة للبنانيين فيها وممراً لتحريك الفتنة في لبنان و تحريض إسرائيل على تفجير الوضع الأمني لاسيما في موسم الاصطياف .

الفقرة الثالثة من الإعلان تنص على "نؤكد على أن الاختلاف في الأنظمة السياسية والاقتصادية و الاجتماعية بين بلدينا قابل لأن يكون مصدر غنى وتنوع وتكامل لا يحول أطلاقاً دون التعاون و التنسيق و التكامل بينهما....". لا أعتقد أن أياً من المناحي الثلاث التي يقترحها النص السابق قابلة للتنسيق والتكامل بين البلدين. فالنظام السياسي في سورية نظام شمولي قائم على حكم الحزب الواحد وهو في المستوى الأعمق الفاعل قائم على حكم المخابرات لكل مناحي الحياة بما فيها الحياة الاجتماعية. و هو ما لا يمكن أن يلتقي مع النظام السياسي اللبناني إلا بعد ثورة حقيقية في سورية في المجال السياسي. وهذه الثورة حتى تصل إلى نتائجها المرجوّة تحتاج في الحد الأدنى إلى عشر سنوات. من الناحية الاقتصادية ربما أمكن تحقيق تقارب ما بين البلدين في حال اتبع النظام السوري نظام الخصخصة لشركات القطاع العام الخاسرة وفي حال فتح المجال أمام العمل الاقتصادي الحر بعيداً عن تحكم المافيا السياسية الأمنية. وهذا مرتبط بثورة سياسية كما قلنا سابقاً. أما من الناحية الاجتماعية فلا بد من ملاحظة أن لبنان نفسه لم يستطع بسبب نظامه السياسي القائم على ميثاق 1943 الذي يضمن التوازن الطائفي أو " التكاذب الطائفي"- كما يقول كمال صليبي ويردد الأستاذ رياض الريس في مقاله سابق الذكر - وبسبب الحرب الأهلية، لكل ذلك لم يستطع أن يقيم تقارباً اجتماعياً بين طوائفه و مكوناته الاجتماعية. و هو الأمر الذي يمكن قوله بالضبط بالنسبة للجانب السوري. فالتكاذب الاجتماعي السوري بل والافتراق الاجتماعي والطائفي بين السوريين ليس بأقل من نظيره اللبناني بسبب التغذية المستمرة من النظام الأمني والفئوي مجسداً الشعار الاستعماري الإنكليزي " فرّق تسد ". فما بالك بإقامة تكامل وتعاون بين البلدين في هذا المجال ؟

ما عدا الملاحطات السابقة فإعلان بيروت دمشق يعتبر الوثيقة الشرعية الوحيدة المشتركة بين البلدين سورية ولبنان التي تستمد شرعيتها من رجال أحرار لا يخضعون إلا لسلطان العقل ومحبة الوطن على تنوع مشاربهم وانتماءاتهم السياسية والأيديولوجية والطائفية. وفي اعتقادنا أن التشكيك في السيد البيانوني خطاً من جهة أنه أحد الموقعين و التشكيك بأي منهم هو تشكيك بالإعلان كله وهو ما تنص عليه الفقرة الأخيرة من الإعلان وهي من أهم الفقرات في الإعلان و ربما كانت روحه: "إن هذا الإعلان يكتسب شرعيته وقوته من قِبَل الموقعين عليه" الأمر الذي يحيلنا إلى موضوع الموقعين على الإعلان، الأمر الذي أثير و أخذ ضجّة كادت تطغى على الإعلان نفسه .

دفاعاً عن الموقعين على بيان بيروت –دمشق :

بدأت هذه الضجة بعد مقال الأستاذ جهاد الخازن "نعم للبيان... لا للبيانوني" ( النهار 17-05-2006). ربما لم يقرأ الأستاذ الخازن الفقرة الأخيرة من الإعلان والتي تشكل مصدر شرعية و قوة النص. فربما لو منحها قليلاً من الإنتباه، لما كتب مقاله المحتج على توقيع البيانوني، لأن مجرّد التشكيك بأحد الموقعين سوف يفتح المجال للتشكيك بسواه. وهذا التشكيك يحيل إلى التشكيك بالإعلان نفسه لأن "هذا الإعلان يكتسب شرعيته و قوته من قبل الموقعين عليه". والحقيقة ان الأستاذ الخازن اعتبر أن توقيع البيانوني على الإعلان "خطأ أدى إلى نسف مشروع المبادرة من أساسه"! ثم بحركة مفاجئة وقاسية يتهم البيانوني بالعمل على حرب أهلية : "لسنا معنيين بمشروع الحرب الأهلية في سوريا. أياً يكن موقفنا من النظام والذي لا يحتاج إلى توضيح. هذا ما يعنيه الآن اسم: البيانوني الثالث". وهو اتهام خطير في اعتقادنا لا يمكن اتهام البيانوني تحديداً به لكن ربما جهات في السلطة ربما, ثم كتب الاستاذ شعبان عبود مقالة "الإعلان " للمثقفين لا للسياسيي " ( النهار 24 -5- 2004) مؤيداً مقال الأستاذ الخازن حيث قال أن البيانوني اسم نشاز استغرب كيف يضم توقيعه إلى الإعلان وأن الإعلان اعلان مثقفين لا يجوز ان يقتحمه سياسي.

لكن الأستاذ شعبان كان نسي أنه هو المثقف يكتب في السياسة كما يجب أن يفعل كل مثقف سوري و لبناني يشعر بالخطر على وطنه وعلى العلاقات بين البلدين، كما أن إعلان دمشق هو إعلان سياسي من أول كلمة فيه حتى آخر كلمة. فكيف يمكن الفصل بين السياسيين وإعلان أو وثيقة سياسية تاريخية كإعلان بيروت-دمش في حال لا يجوز أن نفصل بين المثقفين والسياسة. ولقد رد الأستاذ عبيدة النحاس على الأستاذين الخازن وعبود بمقال "نعم للبيان... لا للبيانوني": إتهامات بلا دليل" (النهار 27 -5-2006) رداً قاسياً لا سيما على اتهام جهاد الخازن للبيانوني والإخوان المسلمين بالعمل على حرب أهلية في سورية. وكان ان رد السيد عبيدة نحاس الصاع صاعين فاعتبر أن "مقال الزين، لائحة اتهام. لكنها لائحة اتهام بلا بناء منطقي، تذكرني بلوائح الاتهام الجاهزة التي يعدّها فايز النوري، ونسمعها في المحاكم السورية اليوم للناشطين السوريين (إثارة النعرات الطائفية، العبث بالوحدة الوطنية... إلخ)."

بعيداً عن هذا السجال الذي أثاره توقيع البيانوني على إعلان بيروت دمشق فلا بد من كلمة في هذه المناسبة: بالنسبة للموقعين على الإعلان لا أعتقد شخصياً أنه من المهم معرفة من وقع و من لم يوقع كي يحدد أيً من الموافقين على الإعلان إضافة أسمه من عدمه. فلو افترضنا أن السيد عبد الحليم خدام أضاف اسمه إلى الإعلان وكذلك السيد رفعت الأسد وصابر فلحوط، أو أعتى المجرمين بحق الشعب السوري من الناحية السورية، وسواء وقعه السيد وئام وهّاب أو سليمان فرنجية من ناحية وأبو أرز وانطون لحد من ناحية مقابلة، فلا أعتقد أن الأشخاص أو الأسماء مهمة لمن يريد العمل لتغيير العلاقات السورية اللبنانية نحو الأفضل. هذا من ناحية. كما أنه ليس من المهم تاريخ الشخص الذي سيوقع. لكن المهم كل الأهمية هو النص أو البيان الذي وقّع عليه لأن النص يصبح ملزماً لمن يضيف توقيعه عليه. هنا ما المشكلة إذا قرّر مجرم ما أن يتوب أو يعيد النظر بتاريخه و يقرر العمل لصالح شعبه، فكيف إن لم يكن أحد من موقعي إعلان بيروت-دمشق كذلك مع أن البعض اتهم البيانوني اتهامات عامة ليس لأحد ممن اتهمه أي دليل عليها؟ و ربما كان لدينا الدليل على عكسها ما يبرّئ الرجل . هذا من ناحية. من ناحية ثانية كشف لنا إعلان بيروت-دمشق نظرة بعض المثقفين السوريين الذين بينت كتاباتهم المعترضة على توقيع البيانوني أنهم يرفضون المسامحة وهم ليس في وارد مسامحة من أخطأ من المعارضة وبالتأكيد ليسوا بوارد مسامحة من أخطأ من أهل النظام السوري في حال أصبح في المعارضة.

إذاً كيف يطالب هؤلاء نفسهم النظام السوري بالقيام بإصلاحات وبتعديل المسار، كيف يمكن للنظام أن يتجاوب معهم وهو يرى بأم العين مقالاتهم وقد أكلت معارضاً سورياً وقّع على الإعلان الذي نحن بصدده لمجرّد أنه زعيم الأخوان المسلمين في سورية. غني عن القول أن الاشتغال بموقّعي الإعلان عوضاً عن الاشتغال بموضوعات الإعلان هو آخر ما كان يحتاجه، لأنه يفرغ الإعلان من مضمونه و يهمش الدور الذي كان واجباً أن يلعبه وهو ظهر للتو كأنضج وثيقة سياسية يطرحها مثقفون وسياسيون سوريون ولبنانيون أحرار ليكون اللبنة الأولى في تاريخ جديد يصنعه الشعبان السوري واللبناني معاً بعيداً عن نزعات التحكم و الخوف والشك و الكره الكره المضاد الذي حكم مسيرة البلدين عقوداً طويلة.

لا بد ان نذكر اقتراح الأستاذ رياض الريّس على الدكتورة نجاح العطار الدعوة لعقد ندوة تناقش إعلان بيروت-دمشق وهو اقتراح جيد ولا شك أن السيدة نجاح العطار نائبة الرئيس تستطيع الدعوة إلى هكذا ندوة لكن بعد أخذ موافقة فرع فلسطين بالتأكيد. من ناحية ثانية ليت الأستاذ الريّس اقترح على السيدة نائبة الرئيس التدخل لإطلاق زملاءها المثقفين السوريين من سجون النظام. فذلك أسهل عليها وأفضل لنا وكفى الله المؤمنين شر القتال.