يثير قرار الحكومة السورية صرف 17 موظفاً من الخدمة دون بيان الأسباب الكثير من الاستغراب والقلق. ويبرز إلى الذهن الكثير من الأسئلة: هل نحن شركاء في الوطن حقاً؟ وهل الوطن لجميع أبنائه؟ وهل الوطن يتسع للجميع؟ وما إلى ذلك من أسئلة المنطقي أن جوابها نعم والواقع أن جوابها لا.

وممن طالهم هذا القرار الغريب أعرف شخصياً الدكتور منير شحود، استاذ التشريح الوصفي في جامعة تشرين. ومن المنطقي أن يكون بقية المصروفين من الخدمة هم من نفس الطينة. وها أنا أؤكد أن مثل هذا القرار يشكل صفعة في وجه كل من يعرف الدكتور منير ولاسيما منهم طلابه.

ولمن يشك في ذلك أن يراجع الاستطلاع السري الذي أجرته الهيئة الإدارية لكلية الطب في جامعة تشرين عام 1999 لمعرفة آراء الطلاب بأساتذتهم، فقد حاز الدكتور منير على أفضل شهادة من الطلاب وبلا منازع وقد كان الاستاذ الوحيد الذي لم يحمل الاستطلاع (أؤكد السري) أي رأي سلبي به.

جميع طلاب الطب الذين عاصروا الدكتور منير، وأنا منهم، يعرفون ويذكرون كيف حول هذا (الفاسد المفصول من الخدمة) مقرر التشريح الوصفي من عقدة للطلاب – فقد كان عدد الحملة يتجاوز 200 طالب حين استلم تدريس المقرر – بسبب ضعف ومركبات نقص الاساتذة السابقين، إلى مقرر سلس وممتع يفهمه الطالب ويتجاوزه بيسر. وكيف خطا هذا (الفاسد) بقسم التشريح، حين استلم رئاسته في جامعة تشرين، خطوات إلى الأمام سواء بطريقة الامتحان العملي أو بإدخال الأسئلة النظرية متعددة الخيارات والبدء بإنشاء بنك أسئلة له. جميعهم يعلم العلاقة الديموقراطية الراقية التي تربطه بطلابه، فهو على علمه الوافر ومركزه لم يؤمن يوماً بهذا الحاجز (العصملي) من الكلفة والترفع (وليس الرفعة) الذي يضعه الاستاذ (الفارغ عادة) بينه وبين طالبه. ولأنه كان محط ضغوطات كيدية ونكايات ممن هم أضعف منه علمياً وإنسانياً ولكنهم أقوى منه سلطوياً، فقد فضل أن يترك القسم ويسافر ليمارس مهنته في السودان. ثم عاد ليتابع جهده الأكاديمي المتميز.

من الطبيعي أن ينتظر المرء لهذا الرجل تشجيعاً وتثبيتاً وشكراً على عمله. ولكن الضغوطات التي مورست عليه من قبل كانت فيما يبدو أول الغيث وها هو الغيث يهطل مدراراً هذه المرة ومن رئاسة مجلس الوزراء وليس أدنى.

أسأل ببساطة ماذا يمكن أن يقول من اتخذ هذا القرار لطالب الطب الذي يرى في الدكتور منير نموذج الرجل المثالي مهنياً وإنسانياً، حين يسأل عن السبب الذي أدى إلى فصل أستاذه؟ هل يجرؤ على تبيان السبب؟ أم يتلطى وراء المادة 137 الجائرة من القانون الأساسي للعاملين في الدولة رقم 50 لعام 2004 وتعديلاته؟ وما الذي سوف يتبادر إلى ذهن هذا الطالب أمام هذا القرار الغامض؟ أحد أمرين: إذا كانت ثقة الطالب بأستاذه تفوق ثقته بالحكومة فسوف يزداد اغتراباً عنها وقلة ثقة بها وهو موقن أنها إنما تفصل رجل من خيرة الكادر التعليمي، وفي هذا خسارة للحكومة. وإذا كانت ثقته بالحكومة أعلى من ثقته باستاذه فسوف يظن أن هناك أمراً خطيراً لا يمكن الإفصاح عنه أدى إلى فصل الدكتور منير، وهكذا أمر خطير لا يقل حتماً عن العمالة إلى جهة أجنبية ما، وسيجد نفسه خائباً في مجتمع كلما وجد فيه رجلاً محترماً من الناحية المهنية والإنسانية يتكشف لاحقاً عن عميل، الأمر الذي يدفعه إلى فقدان الثقة بالمجتمع هذه المرة، إذ يبدو له المجتمع أنه يضم إما فاسدين غير عملاء أو نزيهين عملاء. الخسارة حاصلة في كلا الحالين.

ما هي مشكلة الدكتور منير كي يحارب بالخبز والحليب الذي يؤمنه لابنتيه الصغيرتين؟ أفي كونه رجلاً صالحاً في وسط فاسد؟ أم في كونه صاحب رأي في وسط الغلبة فيه لصاحب المال وصاحب القرار، في وسط معاد للرأي المستقل لمجرد أنه مستقل؟ أي بذار هذا الذي تبذره الحومة؟ وهل تفكر فيما هو أبعد من تصريف الأمور اليومية؟ ما الخطر الذي يشكله الدكتور منير وأمثاله؟ هل يشكل الفكر الديموقراطي والعلماني الذي يعتنقه الدكتور منير خطراً أم حماية للمجتمع؟ وعلى افتراض أنه يشكل خطراً ما فهل يواجه هذا الخطر بأن تقوم الحكومة بتجويعه وتجويع عائلته؟ إلى أي منطق يحتكم صاحب أو أصحاب هذا القرار؟

ولا أغامر إذا قلت أن ما ينطبق على الدكتور منير ينسحب على بقية المفصولين من الخدمة لأن المنطقي أنهم من الطينة نفسها. ولذلك لا يروقون للمسؤول الذي يسطر القرار بلا مسؤولية.

يبقى السؤال: أما من جهة مسؤولة تصحح هذا القرار غير المسؤول؟