إنه مواطن مثالي, وبالمعنى العامي الشائع: مواطن مُرضي 100, أي راض بقسمته وما يصيبه من الحكومة؛ لا يتذمر ولا يتأمر ولا يتآمر, يسبح بحمدها ليل نهار. ولمزيد من المواصفات, هو من سكان مدينة صغيرة تابعة لمحافظة حمص استملكت الدولة أرضاً له تبلغ مساحتها حوالى 200 متر مربع, سعر المتر وفق قانون الاستملاك رقم واحد للعام 2003 يساوي 650 ليرة سورية, رضي بهذا السعر وبقسمة دائرة الخدمات في المحافظة, وشكر ربه بأن حقه لن يضيع كباقي نتف أراضيه التي لهطتها ثورة العامل والفلاح بوضع اليد, دون أن يستفيد منها لا العامل ولا الفلاح.
فرح المواطن «مرضي» وأنب أولاده لأنهم يتذمرون من وقاحة المرتشين, ولقنهم درساً بليغاً بالوطنية والنقد البناء وكيفية تأدية فروض الطاعة لحكوماتنا المتتالية, بل وشد أيضاً من أزر الموظفين المتعجرفين و«المعترين», وشكرهم على جهودهم في تسيير معاملات المواطنين ولابأس ببعض البرطيل من باب الشكر والاعتراف بالجميل. كل ذلك قبل أن ينطلق في ماراتون تحصيل ثمن الأرض, انتدب له معقب معاملات متخصصاً, ووعده ببضعة آلاف من الثمن, دون أن يعني ذلك ألا يرافقه مداوماً معه, كأي موظف نموذجي في دوائر الحكومة, فكانا يأتيان في الصباح الباكر ويمضيان مع انتهاء فترة العمل الرسمي, لمدة لا يعلم بها إلا الله وموظفون راقبوا دوران المعاملة, غالباً في مكانها, على الرغم من المصادفة «البحتة» التي كانوا فيها إما في اجتماع دائم أو في مهمة مزمنة بالشام, وذلك مذ بدأ مواطننا المرضي بتسيير معاملته في أرجاء الطوابق والدهاليز!! أخيراً, ملّ هؤلاء أو يئسوا من زميلين طارئين ملحاحين يصبحونهم في الصباح ولا يفلتونهم إلا بعد الظهر, فلم يجدوا مفراً من التوقيع على شيك بثمن الأرض.

وعلى السادة القراء الكرام ممن يعرف الإجابة عن سؤالنا: كم تبلغ قيمة الشيك, المبادرة فوراً للاتصال عبر الشبكة الذكية, وعوضه على الله في سعر الدقيقة البالغ 25 ل.س, ليربح معنا مليون شعار, وعبارة تؤكد مقدار ما يكسبه مواطن مرضي عن طواعية لا عن قسر, مواطن «لا من تمّه ولا من كمّه»؟ وقد كان بودنا أن تكون الجائزة نسبة من السعر, لكننا لا نريد أن نغبن القارئ جهده, فالمبلغ لا يتجاوز الـ12 ألف ليرة سورية عداً ونقداً, ذهب نصفه لمعقب المعاملات, ونصفه الآخر أجور طريق ولزوم تسهيل المعاملة!!

نعم, صدقوا او لا تصدقوا, أرض بقيمة 130 ألف ليرة, وفق طريقة التسعير الجائرة, تدفع الدولة ثمنها 12 ألف ليرة! كما لن تصدقوا أن صاحب هذه الأرض ­المواطن المرضي المذكور­واحد من عشرات المواطنين في البلدة ذاتها, من الذين وقع الاستملاك على أكثر من عقار ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ولم ينهبوها أو يستولوا عليها. الأسوأ من ذلك, قيام الحكومة بعد سنوات ببيع العقارات المستملكة لمواطنين آخرين, وتحويلها من الملكية العامة الى الملكية الخاصة!!

ولكثرة الرضا لم توفر الحكومة دار المواطن المرضي التي يسكنها وأشرت على جزء كبير منها, ومعها بعض العقارات المتناثرة التي وقع عليها أكثر من استملاك رغم مخالفة ذلك للقانون. وأهمها عقار قبض ثمنه بالليرات, وباعته الحكومة بعد عام بالملايين كي يتحول الى سوق هال!!! مع كل ذلك ومع ما قد يولده من شعور بالقهر والظلم, حافظ مواطننا على أريحيته في الولاء الأعمى للحكومة, وعلى تنعيم الطرق القانونية الى المحاكم للاحتجاج, مع دأبه على شرب قهوة الصباح ممزوجة بافتتاحيات جريدة «البعث», والاستعاضة عن شمس الضحى بتحليلات «تشرين» و«الثورة», لإنارة الحقائق أمام أعين أولاده, وهي بكل جلاء: انه على الصعيد الخارجي لا خوف على الوطن المنيع, وقد اتفقت الدول العظمى على تسوية الأوضاع والسلام بات قاب قوسين أو أدنى, أما مشكلة الفساد فستحل في القريب العاجل, لأن حصادة الإصلاح انطلقت وستحصد الفاسدين, وبات من المحتم وصول المواطن الى حقه عاجلاً أم آجلاً... إلخ. وذلك في تقرير اعتاد تلاوته على أسماع زوجته وأبنائه وحتى أحفاده الذين لم ينطقوا بعد, يومياً عدة مرات: بعد وجبتي الغداء والعشاء وقبل النوم, داعماً برنامجه للتثقيف العقائدي بإلزام أهل بيته وزواره بمتابعة نشرات أخبار التلفزيون السوري بقناتيه الفضائية والأرضية, مكحلاً عينيه باجتماعات الحكومة والقيادتين القومية والقطرية, دون أن يفوت فرصة لمعرفة تفاصيل اجتماعات الجبهة الوطنية التقدمية التي تستعرض منذ خمس وثلاثين عاماً المستجدات على الساحتين الداخلية والخارجية, وهي تؤكد وتشدد على قضايا سوريا العادلة والمواقف الثابتة والمبدئية.

كما لا يبخل بالرصيد العتيد الذي تشكل لديه من استيعاب الخطاب الرسمي, بالعمل وببسالة بالتشويش على مشاهدة القنوات اللبنانية السخيفة والعربية المغرضة, بتعليقاته على نشرات الأخبار المريبة قبل وأثناء وبعد بثها, مبطلاً مفعولها في النيل من صحة الأخبار المحلية الرسمية, وكي لا يخطر ببال أي من أبنائه الميل مجرد الميل لأي رأي معارض للحكومة, فالحكومة مسكينة وحملها ثقيل.

هذا المواطن الصالح والمرضي, ورغم ارتفاع نسبة المشاعر الوطنية الرسمية في دمه الى حد بالغ الخطورة, انفق ماله في المحاكم على مدار أربعين عاماً ولغاية الآن, ولم يستعد شبراً من تلك التي ضيعها الاستملاك أو جمدها. ومع أنه لم يبق تحت يده ذرة تراب تثبت انتماءه لهذا الوطن وتمكنه من الدفاع عنه, لم يغير شيئاً في عادات ولائه الوطني!!

ولكي لا تظنوا أنني أتكلم عن مواطن خيالي, لا وجود له, أقول هذا المواطن هو أبي الذي اسكن بعيدة عنه 160 كم, ويتصل بي كل يوم اثنين بعد أن يقرأ مقالي الأسبوعي ليقول لي: «خلي النقد مشلبن, هيك ما بيسوى», ثم بعد عتب وتأنيب, يملي عليَّ ما يجب أن أكتب وما ينبغي تجنبه , وأي الكلمات استخدم, ثم لا يفوته الطلب أن أكتب عن قضية الاستملاك الجائر وفساد الموظفين الإداريين والقضاء, وكيف أنهم يسيئون للحكومة حين يمنعون وصول المواطن الى حقه بالطرق الشرعية. طبعاً, يريدني أن أكتب عن كل ذلك مدعوماً بالوثائق, لكن بطريقة لطيفة وناعمة وبشكل سلس وغير مباشر, أي تغليف الشكوى بالحمد والشكر على العطاءات التي أبقتنا أحياء على هذه الرقعة من الأرض لغاية الآن. ثم لا يجد غضاضة في إنهاء المكالمة مشدداً على ضرورة أن يكون النقد بناء, بمعنى «لا يعض ولا يخرمش». ثم يغلق الهاتف متجنباً سماع إجابتي: ان لا حياة لمن تنادي وأن لا كرامة ولا حقوق لمواطن في بلد يعيث الفساد في مؤسساته.
هذا من جانب, وفي الجانب الآخر, ما العمل إذا كان الفساد بالمقابل مرضياً عنه 100؟