شهد العديد من الملفات الاقليمية, في الآونة الأخيرة , تطورات لافتة كان من شأنها أن ترخي بظلال من الارتياح على دمشق، لا بل ثمة من يعتقد أن سورية ونظامها على أبواب مرحلة جديدة بفعل تلك التطورات، وثمة من يقول اذا ما عرفت كيف تتعامل معها بحنكة وديبلوماسية سوف تعيد الاعتبار لدورها الاقليمي الذي تراجع في أعقاب انسحاب قواتها من لبنان.

في الوقت ذاته، هناك من يرى ضرورة التروي والتريث، لأن دمشق لن تهرب بسهولة من سيف الضغط المصلت عليها، ولأنها أيضا لا تملك الكثير من الأوراق وعوامل القوة التي تسمح لها بالمناورة مثل أطراف وقوى اقليمية أخرى أكثر أهمية وأكثر قوة، ويخصون بالذكر ايران، القوة الاقليمية العائدة الى المنطقة العربية بقوة ليس من بوابة «تصدير الثورة» بل من بوابة القوة النووية والعسكرية التي باتت تملكها والتي سمحت لها بفرض ذاتها على الجميع.

في كل الأحوال ان أبرز المتغيرات الاقليمية التي استدعت هذه القراءات، هي ما يشهده الملف النووي الايراني من تطورات لناحية قبول جميع الأطراف، وبخاصة طهران وواشنطن، بالخيار التفاوضي والديبلوماسي على حساب المواجهة العسكرية التي ثبت أنها ستترك تداعيات أمنية خطيرة على الأمن الاقليمي والامن العالمي، ومن شأن ذلك، أي في حال جلوس الايرانيين والأميركيين الى طاولة مستديرة، أن يسمح لاحقا، بتناول الطرفين، وهما الأكثر حضورا أمنيا وعسكريا في المنطقة، للعديد من الملفات الشائكة، مثل العراق، ولبنان وفلسطين، وربما العلاقات السورية -الأميركية.

ومن المتغيرات اللافتة للنظر، حصول تقدم على صعيد العلاقات السورية - العراقية، وهذا لم يكن ليتم لولا قيام دمشق بجهود كبيرة لضبط حدودها مع العراق، ولولا وجود تنسيق سوري - ايراني على آليات التعاطي مع الملف العراقي والعملية السياسية، الأمر الذي عكسه لاحقا توقف الاتهامات الأميركية و العراقية ضد سورية بعدم ضبط حدودها مع العراق، وانعكس أيضا في قرار دمشق ارسال وزير خارجيتها وليد المعلم الى بغداد لاحقا للمشاركة في مؤتمر الوفاق العراقي، وبذلك يكون المعلم أول مسؤول سوري على هذا المستوى يزور العراق منذ قطع العلاقة الديبلوماسية بين البلدين في عام 1980.

بالطبع يجب ألا ننسى أن هذا التطور حصل في أعقاب زيارات لافتة لمسؤولين سوريين الى ايران , هما وزير الدفاع السوري حسن توركماني الذي وقع في طهران على جملة من الاتفاقيات العسكرية، وقبله معاون نائب رئيس الجمهورية محمد ناصيف، وأيضا في أعقاب زيارات متكررة لمسؤولين ايرانيين الى دمشق أبرزهم وزير الخارجية منوشهر متكي.

التطور الآخر الذي سمح بحصول ارتياح سوري، واستدعى طرح أسئلة عن حقيقة قدرتها على استعادة دور اقليمي جديد، يتعلق بالمسار الذي بات يحكم عملية التحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وها هو القاضي البلجيكي سيرج براميرتس رئيس اللجنة الدولية للتحقيق، يقدم تقريره الثاني خلال ستة أشهر من تسلمه المهمة خلفا لسلفه الألماني ديتليف ميليس، وكما اتضح من التقريرين الأخيرين، فان جرعة التسييس قد انعدمت لصالح الانغماس في البعد الجنائي التقني، وهو أمر كان من شأنه أن يريح دمشق وأن يدفعها الى التعاون أكثر وأكثر مع القاضي الجديد، لا بل ان هذه المتغيرات في عملية التحقيق سمحت لسورية بالتقاط أنفاسها بعد عام من الشكوك بأنها هي من ارتكبت الجريمة, وهذا كان له آثار سلبية كبيرة على النظام في دمشق وبخاصة لناحية علاقاته العربية والاقليمية والأوروبية التي تضررت كثيرا.

كذلك شهدت الساحة اللبنانية، وهي الساحة التي أثبتت الأحداث أنها بمثابة «البارومتر» والمؤشر الصادق لمدى قوة سورية الاقليمية وارتياحها، أو لناحية ضعفها واضمحلال دورها الاقليمي، اذ شهدت هذه الساحة جملة من التطورات صبت في النهاية لصالح دمشق، منها الجدار المسدود الذي واجهه الفرقاء على جلسات الحوار اللبناني - اللبناني، بسبب ارتباط العديد من الملفات الداخلية بمواقف ومصالح سورية ومنها موضوع الرئاسة اللبنانية، والسلاح الفلسطيني، والمقاومة اللبنانية ممثلة بحزب الله، الى ملف العلاقات الثنائية, وقد اثبتت نتائج جلسات الحوار تلك أن دمشق كانت الحاضر الأكبر رغم غيابها العسكري عن لبنان من خلال حلفائها الذين أثبتوا أنهم ما زالوا قوة اجتماعية وحزبية وعسكرية ميليشوية لا يستهان بها مقارنة بالأكثرية التي لم تعرف كيف تنتصر لشعاراتها ومشاريعها وأجندتها السياسية بسبب قلة الخبرة والاستعجال، وربما بسبب قطعهم خيوط العودة نهائيا مع دمشق متكئين على دعم خارجي تمثل في الولايات المتحدة وفرنسا وسلسلة قرارات دولية ضد سورية.

وأخيرا، وربما يكون لذلك آثاره الكبيرة اللاحقة على موقف دمشق ومكانتها الاقليمية، هو ما كشفته الاستخبارات اللبنانية من شبكات تجسس لصالح «الموساد» الاسرائيلي عملت منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان عام 1990 على تنفيذ الكثير من عمليات الاغتيال، وهو الأمر الذي أعاد الاعتبار في الساحتين اللبنانية الداخلية والاقليمية، لدمشق التي كانت المتهم الأول بالنسبة الى فريق الأكثرية بغالبية عمليات الاغتيال التي شهدها لبنان منذ أكثر من عام.

وعودة الى السؤال المتعلق بحقيقة ما ينتظر دمشق من جملة هذه التطورات، وفي مقدمها، ما يشهده الملف النووي الايراني من امكانات لحله ديبلوماسيا من خلال الحوار مع واشنطن، فلا بد من التأكيد على جملة من الملاحظات، أهمها أن التوقعات بحصول كسب ميكانيكي تلقائي لسورية جراء ذلك يبدو مستبعدا اذ طالما عرف عن طهران اهتمامها بمصالحها القومية والاقليمية أولا، وهو ما تأكد ابان الغزو الأميركي للعراق حين لوحظت تباينات في الموقف بين سورية وايران, كذلك ما أثبتته الحروب الأهلية في لبنان في الثمانينات بين أحزاب وميليشيات تقاتلت مع بعضها بعضا رغم انها محسوبة على دمشق وطهران, ومعروف أن ذلك لم يكن ليحصل لولا حدة التنافس السوري - الايراني على الساحة اللبنانية، الذي انتهى بتسليم ايراني لدمشق مقابل مساعدة دمشق لطهران في ملفات اقليمية أخرى.

لكن من جهة ثانية ربما تحقق سورية كسبا مما يجري نظرا لارتباط ملفات عديدة بالملف النووي الايراني ودور طهران الاقليمي، وهي ملفات ما زالت دمشق أيضا على علاقة فاعلة ومؤثرة بها، وهي الملف الأمني العراقي، والملف اللبناني، والملف الفلسطيني، فكما هو معروف أن من دون تنسيق وتفاهم سوري - ايراني عليها، سيفقد البلدين الكثير من أوراقهما، لكن هذا ايضا يبقى مرهونا بأجندة الحوار الأميركي - الايراني ومدى الاستعداد للخوض في جملة من الملفات غير الملف النووي.

ربما هنا تكمن الاجابة عن حقيقة ما ينتظر سورية مستقبلا, فان حصل وتحقق اتفاق ايراني على مناقشة كل هذه القضايا «كحزمة واحدة»، فلا بد حينها للولايات المتحدة من الاصغاء لدمشق بعد طول تجاهل