يبدو بوضوح أن دول المنطقة بكاملها من المحيط إلى المحيط ومن الخليج إلى الخليج هي رهينة «المنازلة النووية»! بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران وما يمكن أن تسفر عنها المفاوضات المرتقبة بين الجانبين وسط حالة من التجاذبات الحادة تبدو معها إرادات ومواقف بعض الدول كأنها مختطفة وحبيسة مجموعة من الرهانات مقرونة بالعديد من التحليلات الافتراضية التي تراوح بين التنظير الذي يمتزج فيه الواقع بالخيال، والتصورات الرؤيوية التي يمكن أن تسفر عنها العملية التفاوضية بين واشنطن وطهران وكيفية ترجمة أي نوع من التفاهمات الافتراضية في المساعي الجارية لحل بعض الاشكاليات القائمة.

ويُلاحظ في الآونة الأخيرة عملية ربط «تلقائية أو متعمدة للربط بين «الحالة اللبنانية» و «الحالة الإيرانية» رغم الاختلاف والفوارق بين الحالتين. وفي الخوض في التفاصيل تتضح الأمور ولو بصورة تدريجية.

فالرئيس جورج دبليو بوش عاد إليه الأرق! بسبب الوضع في لبنان حيث يبرز من جديد الحرص الشديد من جانب البيت الأبيض على رؤية لبنان دولة مستقلة ذات سيادة معاهداً نفسه والجميع على أنه لن يهدأ له بال قبل تحقيق هذا الانجاز! وحمل بوش الهمّ اللبناني معه إلى قمة فيينا التي جمعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحرص على القول: «تحدثنا عن لبنان وحاجة هذا البلد إلى التحرر من النفوذ السوري وعملنا على نحو وثيق في الأمم المتحدة لإيصال تلك الرسالة الواضحة إلى السوريين: «دعوا لبنان وشأنه، دعوه ديموقراطية حرة وهو جزء ضروري لإرساء أسس السلام في الشرق الأوسط».

والرئيس جورج دبليو مشكور على عواطفه النبيلة حيال لبنان. لكن حول هذا الكلام كلام آخر يجب أن يُقال. فإذا كان الرئيس الأميركي يحرص بهذه الحدة وبهذه الشدة على استقرار لبنان وسيادته، فكيف يمكن للمواطن اللبناني العادي أن يساوره مثل هذا الشعور من الطمأنينة وهو الذي لم يلمس منها الكثير حتى الآن، باستثناء خروج أو إخراج القوات السورية من لبنان. ثم ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم تصدق النبوءة البوشية واستعاد لبنان فعلاً لا قولاً شعاراتياً هذه السيادة وذلك الاستقلال التام والناجز، خصوصاً أن لهذا الرئيس الأميركي بالذات من السوابق التي لا تبشر جميعها بالخير ولا توحي بدرجة عالية من الثقة. ولن يكون التورط في العراق هو النموذج الفاشل الوحيد عندما نقارن بين بداية الحرب وما بلغته حتى الآن.

أما المقلب الآخر من تصريحات الرئيس الأميركي وما يتصل بمواقف سورية ففي كل مرة يصعّد بوش من لهجته ضد سورية لتغيير نهج تعاملها مع لبنان كدولة مستقلة ذات سيادة كلما ازدادت دمشق تصلباً في موقفها. وليس الاشتباك الكلامي الحاد المتأجج بين سورية ولبنان حول التفاهم على زيارة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة للبحث في القضايا العالقة إلا النموذج الصارخ عن بلوغ التوتر العالي بين البلدين درجات مرتفعة من الاحتقان. ونقاط الاختلاف باتت معروفة والكثير من الأخطاء في أسلوب التعاطي مع أزمة العلاقات اللبنانية - السورية يتحمل مسؤوليتها أكثر من طرف، الأمر الذي أدى إلى زيادة درجة التوتر في علاقات البلدين وفي تفاقم أزمة الثقة بين الجانبين أكثر فأكثر. وما لغة التخاطب القائمة بين الرئيس السنيورة والمسؤولين في دمشق إلا عملية تسجيل نقاط ومواقف بل واللجوء إلى «عملية ثأر منظمة» وأعلى رداً على سعي لبنان مع المجتمع الدولي (أميركا وفرنسا تحديداً) اعتماد سياسة الإملاءات عبر قرارات مجلس الأمن الدولي لتنظيم العلاقات بين البلدين. وقد قالها وزير الخارجية وليد المعلم أن لا اكراه في العلاقات بل أن مثل هذه الأمور لا تحدث إلا برغبة مشتركة من الجانبين وفق ما نصت عليه معاهدة فيينا من حيث أن إقامة علاقات ديبلوماسية بين دولتين يتطلب موافقة الطرفين على ذلك.

واتجهت الأنظار إلى القمة المصرية - السورية في القاهرة يوم الخميس الفائت لمعرفة ما إذا كانت وساطة الرئيس حسني مبارك يمكن أن تؤدي إلى عملية اختراق في الجدار المسدود بين لبنان وسورية، لكن الوزير وليد المعلم بددّ الآمال التي كانت معلقة ولو على فتح كوة في جدار علاقات بيروت - دمشق عندما قال أن الوقت لم يحن بعد لإقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين مكرراً المقولة - الافتراضية أنه لو تعرضت علاقات البلدين إلى ما تتعرض له اليوم لأدى ذلك إلى قطع العلاقات.

ولا ندري تماماً أهمية هذه المقارنة أو المقاربة مع مبدأ تبادل السفراء. والظاهر بوضوح طالما أن طريق بيروت - واشنطن لا تزال هي الأقرب من طريق بيروت الشام فالعلاقات إلى مزيد من التأزم. ومع ذلك يجب أن تتكرر المحاولات للتهدئة. وإذا كان البعض يتذاكى على التاريخ أحياناً فلا يصح التذاكي على الجغرافيا.

وبانتظار نجاح بعض المساعي والوساطات العربية التي يسعى لبنان لها لفتح صفحة جديدة من العلاقات من نوع جديد مع سورية. فباستطاعة الحكومة الحالية العمل على خلق مناخ جديد من التهدئة في المحاولة الصعبة لاسترداد الثقة التي أصيبت بشرخ كبير جراء الانسحاب السوري من لبنان وما تبع ذلك حتى الآن.

وإذا كان لبنان يعني ما يقوله بأن «لبنان لا يُحكم من سورية ولا يحكم ضد سورية»، فيجب عندها طرح معادلة جديدة تتجاوز مجلس الأمن الدولي والاستقواء بأميركا وفرنسا. وإلا فإن استمرار اعتماد اللغة الخشبية من أكثر من طرف وجانب لن يفضي إلا لمزيد من التأجيج والتصعيد والتعقيد.

ولنقل الأشياء من دون مواربة وبعيداً عن المواقف الثنائية والازدواجية: أن المرونة مطلوبة من الجانبين وهي لمصلحة الجانبين معاً، وما عدا ذلك تبدو الأمور مرشحة لوقت طويل من الاحتقان والتوتر حتى لا نقول التفجر! ومن لبنان وسورية إلى إيران... مع بروز خلاف إعلامي على موعد الذي تقديم إيران اجابتها عن «عرض الحوافز» الذي قدم اليها. ففيما تقول طهران أن ردها سيكون جاهزاً في نهاية الشهر المقبل تموز (يوليو)، فإن الرئيس بوش يصر على ضرورة الحصول على هذا الجواب في أقرب فرصة ممكنة.

هذه السجالات الإعلامية معروفة ومتداولة في مواضيع كبيرة وحساسة كالموضوع النووي الإيراني.

لقد كان المشهد مثيراً للاهتمام. من اليمين إلى اليسار: الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد ثم الهاشمي رافسنجاني، ثم الرئيس محمد خاتمي إلى جانب المرشد الأعلى السيد علي خامنئي.

واللافت في هذا «التجمع» في صورة واحدة هي التعبير الإيراني عن وحدة الموقف الداخلي عندما يتعلق الأمر بالتعاطي مع الخارج، خصوصاً مع «الشيطان الأكبر» وبشكل أخص الموضوع النووي، إذ تختفي ولو إلى حين الخلافات بين الاصلاحيين والمحافظين وتوضع الطروحات الأيدولوجية جانباً رغم وجود الكثير من التباعد في بعض التوجهات والتطورات، وهذا تكتيك إيراني فيه ذكاء وحنكة سياسية. وفي هذا الاطار أخذت طهران موقع الذي يتولى فرض شروطه على أميركا والعالم بأسره حول موضوع تخصيب اليورانيوم. وبلغ في سياق التكتيكات التفاوضية أن طهران هي التي تتمهل في الرد على الأسئلة الأميركية والأوروبية أي أنها تتصرف كـ «دولة كبرى» مقابل دول كبرى. كذلك بلغ الأمر مرحلة قيام السيد عبدالعزيز الحكيم العراق بزيارة طهران لاقناع المرشد العام وأحمدي نجاد بضرورة اجراء الحوار مع الولايات المتحدة لأن في ذلك فائدة لأكثر من طرف بما في ذلك العراق حيث تتداخل المصالح الإيرانية بشكل وثيق ارتبط عضوياً بالمستقبل العراقي على المدى المتوسط والمدى البعيد.

وهنالك أكثر من قرينة تؤكد على أن إيران تعتصم بموقف يتراوح ويتأرجح بين التصلب حيناً... والمرونة حيناً آخر فهي من جهة تريد استغلال هذه السانحة التاريخية للحصول على أفضل الامتيازات و «الحوافز» ضمن مشروع المقايضة الكبير حول الملف النووي بالإضافة إلى ما يشبه مرحلة توزيع مراكز النفوذ في المنطقة.

ورغم أن أكثر من مصدر متابع لهذا الشأن عن كثب يعتقد بأن السقف العالي للتهديدات الإيرانية لا يعكس حقيقة الواقع حيث أن نسبة تخصيب اليورانيوم التي اقدمت عليها طهران لا تتجاوز نسبة 4.8 في المئة وأنها لا تزال بعيدة نسبياً عن انتاج القنبلة النووية فهي سعت وستسعى من خلال طرح هذا الموضوع بهذا الشكل الدراماتيكي مقابل الحصول على بعض جوائز الترضية التي تتصف بأهمية هي مزيج من النفوذ والهيمنة على إيران وبعض دول الجوار وتكريسها كقوة إقليمية بدون منازع، ويقول بعض العازفين إن «المغامرة» الإيرانية قد تتحول إلى مقامرة تفضي بها إلى الحصول على العديد من المكاسب والأرباح من كل لون ونوع وفي أكثر من مكان وزمان.

وبين لبنان وإيران يأتي العراق. عقدة العقد.

فقد سارع الرئيس بوش لتهنئة نفسه والحكومة العراقية بمصرع «أبو مصعب الزرقاوي». وحتى رئيس الحكومة نفسه المالكي لم يكن على علم بوصول الرئيس الأميركي عندما تم استدعاؤه إلى مبنى السفارة الأميركية في بغداد وقيل له أنك ستقابل «شخصية مهمة». ودخل القاعة ليجد نفسه وجهاً لوجه أمام بوش.

لقد تساءلنا منذ أسبوعين («الحياة» 11 حزيران/ يونيو 2006) عن تداعيات مصرع الزرقاوي وماذا عن الزرقاويين الآخرين؟

وعندما دخلت القوات الأميركية للتأكد من أن الزرقاوي قضى فعلاً بعملية القصف الجوي، وجد الجنود في المكان ثوب نوم نسائي بألوان جلد النمر، ونسخة من مجلة «نيوزويك» (الطبعة العربية) وصورة لفرانكلين دي روزفلت.

ومع إعلان أبو حمزة المهاجر خليفة له، لم يطرأ أي تغيير إيجابي يذكر على الصعيد الأمني، بل بقيت التفجيرات على حالها، لا بل أن التوقعات تشير إلى احتمال حدوث تصعيد جديد في التفجيرات الأمنية، رغم الخطة التي أعدتها القوات الأميركية وقضت بنشر آلاف الجنود في قلب بغداد وضواحيها. على أن ظاهرة جديدة برزت في الأيام القليلة الفائتة حيث قرر الإرهاب العراقي المقيم منه والوافد، توسيع دائرة طموحاته! لتصل الآن إلى المطالبة بتحرير الشيشان. وسبق هذا التطور الإعلان عن اعتقال عدد من المواطنين الروس من قبل جماعات مسلحة وهددوا بقتلهم إذا لم تنسحب القوات الروسية من الشيشان. وهذا يعني أن المواجهة لم تعد مقتصرة على الولايات المتحدة وضرورة حملها على الانسحاب من العراق فحسب بل أن بعض الخلايا الجديدة من المجموعات الإرهابية قررت توجيه رسالة إلى موسكو ليتأكد من جديد أن الحرب الأميركية الاستباقية على العراق هي التي ساعدت وحرضت على استحضار الجماعات الإرهابية من أنحاء مختلفة من دول الجوار.

وإذا ما عدنا إلى النقطة المحورية المتمثلة بسقوط المنطقة العربية عموماً رهينة لمدى التفاهم المحتمل بين طهران وواشنطن يعيش الجميع هاجس مصير ما ستؤول إليه المفاوضات بين أميركا وإيران سلماً أم حرباً. وعليه يجب ملاحظة الآتي:

كلما تزايد الحديث خاصة في أوساط الديبلوماسيين وبعض السفراء الأميركيين الذين يكثرون من الثرثرة والظهور الإعلامي بشكل مكثف... كلما تزايدت أحاديثهم عن عدم حدوث صفقات ولا مقايضات على حساب طرف أو أكثر في المنطقة فإن هذا الأمر يكون مدعاة لمزيد من القلق وليس باعثاً على التطمين. يعني أن نفي السفراء المعتمدين بشكل متعمد عن حصول صفقة على حساب لبنان أو غيره ليس دقيقاً ولا أميناً ودرجة صدقيته متدنية. ومعظم التصريحات العلنية تبدو من نوع تعميم الحق الذي يراد به باطل.

في كلام منحول أو منسوب إلى الاسكندر المقدوني يقول - إذا ما - تأكدت صحته - ما يأتي: «لو امتلكت عناد الفرس وشجاعة الكرد لحكمت العالم». والتفسير واضح: الفرس (إيران) والكرد (الأكراد). ومناسبة الاستشهاد بهذا القول مدى تطابقه مع الأمر الواقع. فهنالك حالة قلق تبلغ حد الهلع تجتاح منطقة الخليج انتظاراً لمعرفة مسار «الحوار النووي».

تم العثور إلى جانب الزرقاوي إثر مصرعه على ما سمّي «وثيقة الموت والدمار»، وفيها العديد من الخطط تجعل قارئها يعتقد للوهلة الأولى أنها من إعداد مخطط استراتيجي محترف. فهو يدعو إلى ضرورة فعل أي شيء وكل شيء لتصعيد الموقف بين أميركا وإيران وجرّهما إلى مواجهة عسكرية. كما تضمنت الوثيقة (على ذمة الراوي موفق الربيعي): اشعال حرب بين الشيعة والأميركان، وحرب أخرى بين الشيعة والعلمانيين (أمثال أياد علاوي وأحمد الجلبي)، وحرب ثالثة بين الشيعة والأكراد وحرب رابعة بين جماعة عبدالعزيز الحكيم ومقتدى الصدر، وحرب خامسة بين شيعة العراق وسنة الخليج والوطن العربي.

ان الأيام والأسابيع القليلة المقبلة ستكون مثقلة بالتطورات والتحركات وصولاً إلى مرحلة فيها بعض الحسم في السلب أو الايجاب ما بين الولايات المتحدة وإيران. وبالمناسبة تجب الإشارة إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت التقى جميع رؤساء الوزرات السابقين وكان محور البحث الوضع في العراق واحتمالات حدوث تطورات على هذا الصعيد. وعندما يلتقي الإسرائيليون من هم في السلطة مع من هم خارجها فهذا يؤشر الى عمل عسكري غير عادي يتم خلاله في العادة التداول بشأن حدث كبير - فهل يتكرر سيناريو قصف «مفاعل تموز» في بغداد؟

ان أسواق الرهانات والتقديرات الفرضية حاشدة بالسيناريوات لمستقبل المواجهة بين أميركا وإيران - لكن العديد من الاستراتيجيين الفعليين يعتقدون أنه إذا ما وقعت الواقعة فربما تربح واشنطن جولة أولى في حين أن الخسائر الإيرانية يمكن تحملها رغم أنها ستكون ثمناً باهظ الكلفة. وحتى الآن تتصرف إيران بذكاء في قيادة تفاوضها مع الولايات المتحدة لكن ما يُخشى هو الإفراط والغلو في الذكاء ويصبح عندها تذاكياً له حسابات من نوع آخر.