تعودنا هذه الأيام على تلقي كميات هائلة من المحاضرات و المناظرات المتعلقة بالديمقراطية و نشر مفاهيمها في عالمنا العربي سواء من قبل الأمريكيين و الأوروبيين أو من قبل الظاهرة المعارضة السورية في الداخل أو الخارج.

و بعيدا عن الخوض في تصنيفات و دوافع أولئك اللذين اجتمعوا في لندن أو أي مكان آخر فان أحدا منهم أو غيرهم من المناظرين لم يطرح السؤال الرئيسي في هذه المعمعة الديمقراطية ألا و هو:
هل نحن مؤهلون كمجتمعات عربية لمثل هذا النظام الحضاري في الحكم و الحياة؟

فمثل هذا النظام المعقد يحتاج إلى عوامل أساسية يجب أن تتوافر في أي مجتمع قبل الخوض في غمار تجربة مماثلة و يجب على من يرغب في نشر الديمقراطية و إرساء مفاهيمها أن يبحث فيما إذا كان المجتمع مؤهلا لتلقي تلك المفاهيم و تطبيقها كنظام يحكم أفراده و مؤسساته و إلا فمن الحكمة بمكان أن يعمد إلى تهيئة الأجواء المناسبة و توفير الشروط اللازمة لبدء العملية الديمقراطية و هذه مسألة تحتاج إلى جهد جبار و زمن طويل قد يمتد أجيالا و أجيال و ربما قرون.

و إذا ما أردنا حصر هذه العوامل فان العنوان الرئيسي لها هو الاقتصاد الذي يعد من أهم الركائز الواجب توفرها لبناء نظام ديمقراطي سليم و هذا يرتبط ارتباطا وثيقا بحالة الضعف أو القوة في النظام الاقتصادي لأي دولة و من الوهم القول بان دولة اقتصادها ضعيف قادرة على ممارسة الديمقراطية و حمايتها لان هذا الضعف سيؤدي حتما إلى تدخلات غير ديمقراطية و غير شرعية في مسائل حيوية تؤثر بشكل مباشر في الحالة العامة للمجتمع و الدولة و سيؤدي أيضا إلى مناكفات سياسية و ربما طائفية و عرقية ( على اعتبار أن مجتمعاتنا لم تتعاف بعد من التصنيفات الطائفية و العرقية في بعض الأحيان).

وتحسين الدخل على مستوى الأفراد سيحصنهم ضد التأثر بقوة رأس المال و شراء الذمم و تغيير القناعات فتصبح الممارسة الديمقراطية نابعة من عقائد و قناعات راسخة في وجدان المنادين بها و ممارسيها و المسألة نسبية طبعا، ناهيك عن التطورات الايجابية التي يمكن أن تحدث في مجال التعليم و التثقيف و التي من شانها أن ترتقي بالمجتمع إلى مجتمع مفكر و مبدع بعد أن كان متلق و ببغائي إلى درجة مخجلة، فيصبح فيه الفرد قادرا على الاختلاف مع الآخرين و الاعتراض بثقة و معرفة قائمة على أسس علمية سليمة و يصبح للرأي قيمة و للمشورة دور في بناء ديمقراطية لا تصادر الآراء باسم الديمقراطية.

أمر آخر لا بد من الخوض فيه فالفرد داخل الأسرة العربية يتربى على ثقافة الخوف من الأب أو الأخ الأكبر أو ....... على اعتبار انه المعيل الوحيد لأفرادها فيأمر و ينهي و طاعته واجبة و الاعتراض ممنوع فيسود مبدأ الصغير يحترم الكبير و الكبير يعطف على الصغير و هذه بداية الإذلال، حيث يبدأ الصغير بالبحث عن طريقة يستجدي فيها عطف الكبير فيما يشعر الكبير بالنشوة في كل مرة يتملقه أخوه الصغير ،فتسود عقلية السيد و العبد بدل أن تسود المحبة و الاحترام المتبادل بين أفراد الأسرة التي تعتبر الركيزة الأساسية في بناء المجتمعات العربية ،كذلك الشروح المسيسة للنصوص الدينية و التي تقضي بضرورة طاعة أولي الأمر على أنها واجب و هي من طاعة الله فلا يحق لأحد أن يحاسب أو يساءل إلا من هو أعلى منه مرتبة – أي الأقرب إلى الله منزلة- فيتجسد مجتمع العبودية بأقسى أشكاله و أقدم أنماطه.

كل هذا يؤدي إلى نشوء دكتاتوريات صغيرة داخل الأسرة كردة فعل طبيعية انتقامية للسيطرة المطلقة التي مورست على أفرادها طيلة سنوات و هذه الديكتاتوريات لن تبقى حبيسة الأسرة بل ستنتشر بين أفراد المجتمع و تكبر و تتطور بحسب ما يمكن لحاملها أن يتبوأ من مناصب عليا.
و ربما يكون حل هذه المشكلة في إنشاء أجيال جديدة بعيدا عن ثقافة الترهيب و الخنوع و إنشاء أفراد مستقلين غير تابعين لأحد ضمن أسرة متحابة يسود الاحترام بين أفرادها كبيرهم و صغيرهم ، أولئك سيحملون بالفطرة مفاهيم الديمقراطية و أسسها.

أخيرا و ليس آخرا فانه من المستحيل تطبيق الديمقراطية في مجتمع ذكوري حيث يصنف الرجل على انه المخلوق الأكثر رقيا بين الكائنات و ما المرأة إلا واحدة من تلك المخلوقات المسخرة لخدمته و طاعة أمره فهي إما زوجة أو أم أو أخت و لكنها ليست شخصا اعتباريا أو ندا لأي رجل فتهمش و تخرج من جميع الحسابات، تنتظر عطف و نعمة ولي النعم ، إذا علينا أولا أن نحسم الجدل القائم منذ الجاهلية حول دور المرأة و حقوقها و واجباتها وصولا إلى الاعتراف بإمكاناتها الفكرية و العملية و مساواتها بالرجل ككائن حي خلقه الله بقدرات تفوق قدرات الرجل بعد أن أصبحت القوة البدنية ثانوية في زمن التكنولوجيا الحديثة.

و على الرغم من الحرية التي تنعم بها المرأة اليوم ( وهذه ليست حالة جديدة و إنما قديمة قدم التاريخ إلا أنها تعرضت لخضات قوية جدا فاحتاجت إلى كفاح آخر من اجل تجديدها ) و الوظائف و المناصب التي تشغلها، إلا أنها لا تزال في عقلية الرجل مخلوقا أدنى مرتبة و اقل قيمة ، فالمشكلة ليست في عمل المرأة و إنما في تفكير الرجل و نظرته للمرأة ، و طبعا ليس من المعقول تطبيق الديمقراطية على نصف المجتمع و ترك النصف الآخر في مهب الريح.

و خلاصة القول أننا –مع الأسف- غير مؤهلين حتى اليوم لتلقف هذه المنهجية -القديمة المتجددة- لإدارة حياتنا و الارتقاء بالفرد العربي ثم المجتمع إلى مصاف الشعوب المتقدمة و للأسف ليس في حاضرنا أو ماضينا تجربة يمكن الاستشهاد بها و اعتبارها مثلا يحتذى في ممارسة الديمقراطية.
ومع هذا فأن تصل متأخرا فخير من أن لا تصل أبدا