أعلنت مصادر في هيئة أركان القوات البحرية الروسية عن خطة لإنشاء قاعدة عسكرية دائمة في ميناء طرطوس السوري، بما يوفر البديل والمراسي للسفن الحربية المقرر سحبها من قاعدة سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم المتنازع عليها مع أوكرانيا. وسوف تكون القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس محمية بنظام دفاعي روسي مضاد للطائرات على المدى البعيد وهو (إس-300 بي.مو-2 فافوريت) الذي يمكن أيضاً أن يحمي قسماً كبيراً من الأراضي السورية. والواقع أن الإعلان عن إنشاء هذه القاعدة كان مفاجئاً للغاية، لأنه يعني عودة روسيا لتكون قطباً عالمياً من جديد وذلك خلافاً لما يروّجه الغرب من أنها باتت ضعيفة وعاجزة عن مواجهة الولايات المتحدة.

فإقامة هذه القاعدة تثبت أن روسيا دولة عظمى، وأنها مستعدة للنزال مع الولايات المتحدة في جميع الجبهات والميادين. وتعود العلاقات بين سوريا وروسيا إلى الحقبة السوفييتية، فقد ارتبطت سوريا بعلاقات قوية مع الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان قد ظهر بعد الحرب العالمية الثانية كنصير للشعوب المغلوبة في الأرض. ولقي خطابه التحرري آنذاك، أصداء واسعة في العالم الثالث، ومنه العالم العربي الذي عانى الويلات من الاستعمار الغربي. وكان اغتصاب فلسطين من قِبل اليهود وقيام “إسرائيل” عام 1948 بدعم كامل ومفضوح من القوى الغربية الرئيسية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا)، قد شكّل صدمة كبيرة للشعوب العربية ولاسيما القريبة من فلسطين التي شاهدت بأم عينها حجم المأساة التي حلّت بالشعب الفلسطيني المظلوم. وكانت سوريا قد تأثرت إلى درجة كبيرة بنكبة فلسطين، فتولّد فيها شعور عام يكره الغرب ويرفضه، ويميل إلى التعاون مع قوى اليسار العالمي التي كان يمثلها الاتحاد السوفييتي السابق. وابتداء من عام 1954 بدأت سوريا تشتري السلاح من الاتحاد السوفييتي حتى أصبح سلاحها كله سوفييتي المنشأ. لكن العلاقات بين سوريا والاتحاد السوفييتي لم تصل إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي، لأن سوريا كانت ترفض أن تكون جزءاً من صراع الحرب الباردة. وكانت تميل، بقدر قليل، إلى عدم الانحياز في الصراع بين القطبين. ومع ذلك، فإن سوريا كانت مضطرة إلى التأثر بهذا الصراع، خاصة أن الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة قد نقلا جزءاً من صراعهما العالمي إلى المنطقة العربية من خلال الصراع العربي مع “إسرائيل”. فأصبح القطبان حاضرين في كل الحروب العربية مع “إسرائيل” وكانا يعملان على تحقيق التوازن في هذه الحروب لكي لا تطغى مصلحة قطب منهما على مصلحة القطب الآخر.

ولئن كانت حرب عام 1967 أمريكية صرفاً حققت فيها “إسرائيل” انتصارات كبيرة على العرب؛ فإن حرب عام 1973 كانت سوفييتية، حيث حقق العرب فيها نصراً محدوداً على “إسرائيل” أعاد شيئاً من الكرامة المهدورة عام 1967. فقد أثبتت الأسلحة السوفييتية التي كانت بحوزة مصر وسوريا آنذاك أن الاتحاد السوفييتي جاد في دعم الدولتين في مواجهة “إسرائيل” وحليفتها الولايات المتحدة. لكن مصر اختارت طريق السلام مع “إسرائيل”، وفكّت ارتباطها بالاتحاد السوفييتي وارتبطت بالولايات المتحدة. أما سوريا فلم تتوصّل إلى اتفاقية سلام مع “إسرائيل”. ولذلك استمرت العلاقات قائمة بينها وبين الاتحاد السوفييتي. ونظير المساعدات التي قدّمها لسوريا عام ،1973 فقد وافقت القيادة السورية على السماح للاتحاد السوفييتي باستخدام ميناء طرطوس ابتداء من عام 1974 كنقطة اسناد تقنية لخدمة قطع أسطوله المرابط في البحر المتوسط. لكن سوريا رفضت طلب الاتحاد السوفييتي إقامة قاعدة عسكرية دائمة له فيها، خوفاً من أن يستغل السوفييت هذه القاعدة، فيعمدوا إلى إيصال الحزب الشيوعي السوري إلى السلطة في سوريا ومن ثم ضمّ سوريا بشكل كامل إلى المعسكر الشرقي.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام ،1991 فترت العلاقة بين سوريا وروسيا التي أصبحت الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي بسبب الديون الكثيرة التي كانت للاتحاد السوفييتي على سوريا والتي بلغت نحو 20 مليار دولار كلها ثمن أسلحة ومعدّات عسكرية وحربية. وتوقّف توريد الأسلحة الروسية إلى سوريا، لكن هذا الفتور في العلاقة بين الدولتين كان بمثابة سحابة صيف لإدراك روسيا أن سوريا حليف أساسي لها في المنطقة العربية، وأنه من الخطأ التفريط بهذا الحليف.

وعلى خلفية هذا الإدراك، قامت روسيا منذ نحو سنتين بجدولة ديونها على سوريا، فألغت القسم الأكبر من هذه الديون، وأبقت على نحو 3 مليارات دولار منها، تعهّدت سوريا بدفعها لها. ومنذ ذلك الوقت، عادت الحياة إلى العلاقات السورية - الروسية. ومع اتجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تعزيز مكانة روسيا العالمية، فقد عاد الاهتمام الروسي بسوريا في الوقت الذي كانت الضغوط الأمريكية تتصاعد ضدها، ولاسيما بعد احتلال العراق عام 2003. وأدركت سوريا أن الولايات المتحدة تريد تدمير النظام فيها وإشاعة الفوضى كما فعلت مع العراق. ووجدت في روسيا خير معين لها في هذا الزمن الصعب، فتلاقت مصالحها بالكامل مع مصالح روسيا، فقررت التخلي عن سيادتها على جزء من أرضها، وسمحت لروسيا ببناء قاعدة عسكرية دائمة لها في ميناء طرطوس.

ولا شك أن سوريا بهذه الخطوة، تكون قد وجّهت طعنة مؤلمة للولايات المتحدة التي لن يكون بمقدورها بعد الآن التطاول عليها ولا التهديد باحتلالها، وستكون هذه الخطوة، مدخلاً لتحقيق استقرار حقيقي في الشرق الأوسط.