عبد اللطيف مهنا

هل نحن في مرحلة ما بعد التطبيع؟!
تساؤل مريع، بل هو مُسْتَفِزٌ، وأيضاً مهين... لكن من أين لعربي غيور القدرة على تجنب طرحه على نفسه أولاً، وعلى من يلتقيه ثانياً، وقد تابع، أو تابعا معاً، عبر شاشات الفضائيات العربية احتفالية مؤتمر نوبليي البتراء... متابعة تأتي بغير صدفة بالتزامن والتوازي مع متابعة أخرى، غدت في حكم اليومية المفروضة على المشاهد العربي، بل لعلها هي التي تلاحقه، ونعني متابعته لوقائع الهولوكوست الفلسطيني الدائم. هذه الوقائع بمشاهدها الدموية المتنقلة، على مدار الساعة تقريباً، بين غزة ونابلس وجنين ورام الله، وسواها من المدن والقرى والمخيمات والتجمعات الفلسطينية...

وقد لا يكون من المنطقي الاكتفاء بمثل هذا التساؤل، لأنه حتام سيجر معه لا محالة تساؤلاً آخراً أشد منه علقمية، ومدعاةً أكثر منه للارتياع وللإحساس بالمهانة، وهو:
ترى هل سلّمت هذه الأمة فعلاً بالهزيمة؟!

...بل واستطراداً، لا مناص من أردافهما بثالثٍ يقول:
وهل قبل العرب نهائياً بضياع فلسطين، وبما يستوجبه هذا بالتالي، إن كان، من تخلٍ شبه معلن عن شعبها الذي هو بعضهم الذي يذبح أمام ناظريهم فيها، حيث تجري راهناً محاولة تصفية قضيته، بينما هم يبدون المشيحين الوجه عن ما كانت ولا زالت وستظل قضية قضاياهم المصيرية بل الوجودية... مشيحون الوجه عنها، والزمن الأمريكي والتواطؤ الدولي، والعجز والتهاون والتفريط يجهز عليها...

مالذي حدث في البتراء العربية الأردنية، أو حدث ويحدث في أخواتها المدن العربية الفلسطينية المحتلة في آن، ليقصف من ثم هذه الأيام وجداننا المثلوم المثقل أصلاً بالمرارات بمثل هذه التساؤلات المرة؟!
في عاصمة الأنباط الفريدة فرادة تاريخها وسياحيّتها، انعقد المؤتمر الثالث للنوبليين اليهود وبعضٍ من زملاء وأصدقاء ومريدين لهم من الحائزين على جائزة "نوبل للسلام"... تلك الجائزة، التي تهتكت مضامينها بتهتك توظيفاتها، ولدرجة أن رفض قبولها عديد مبدعي العالم الكبار كبر مبادئهم... كان على رأس هؤلاء المؤتمرين منظم مثل هذا المحفل، الصهيوني الأمريكي الإسرلئيلي إيلي ويزل، المعروف بأنه الأشد دفاعاً عن آثام إسرائيل واندفاعاً لتبرير جرائمها. وكان واسطة عقدهم رئيس الوزراء السابق شمعون بيرس... شمعون بيرس مذبحة قانا ما غيره. أما نجم المناسبة بلا منازع فكان إيهود اولمارت، رئيس الوزراء الإسرائيلي ، الذي أم عاصمة الأنباط ملطخ اليدين بدماء الأطفال والحوامل والشيوخ من الفلسطينيين العرب...

كان حضوراً دولياً يهودياً بامتياز، زيّن ببعض قليل من المنتقين الكونيين من أمثال الدلايلاما، وبالتالي كنّا إزاء توظيف صهيوني أو غربي آخر للمرحوم نوبل وجائزته، أحط من قيمته وقيمتها، هذا إن بقيت لها قيمة معنوية بعد... لأنه كان باختصار، وتماماً كما وصف البعض بحق، قد تحوّل وفق المراد منه أصلاً إلى بكائية صاخبةٍ على الطريقة الصهيونية المعروفة على الأحزان اليهودية البائدة، المراد منها تغطية الأحزان الفلسطينية الدارجة أو السارية المستمرة... لقد كانت مسرحية من الطراز إياه، بإدارة إسرائيلية كاملة هذه المرة، راعى منظموها، عبر مخرجها ويزل، زماناً وتوقيتاً وتوظيفاً، ينسجم كلياً مع الأجندة الإسرائيلية... الضيافة والتكلفة للأسف كانت عربية... أما الحضور، من غير الإسرائيليين، أعرباً كانوا أو من سواهم، فليسوا سوى ما كان يراد لهم أن يكونوا... مجرد كومبارس، والتوصيف كان لبعض من حضر منهم!

طرح ويزل شعاراً عاماً مدوياً لمؤتمره: "العالم في خطر"، ولم يقل لنا أي عالم يعني، وأي خطر يقصد... داعياً القائمين على السياسة والقائمين على الفكر إلى تحويل التحديات إلى فرص، ولم يحدد لنا أولئك القائمين، لا على السياسة ولا على الفكر، وكذا الأمر نفسه بالنسبة للتحديات ونوعية الفرص... مكتفياً بما كان منه ليخرج مؤتمره ببيان انشائي عام عمومية وضبابية شعاره المقصودين...

ويزل ومؤتمره، لم يتطرق إلى الأخطار الاستباقية الجاثمة على صدر العالم، لم يأخذ علماً بالمجازر التي ترتكب يومياً في العراق وأفغانستان وفلسطين... لم يشأ أن يسمع بحكاية الطفلة هدى غالية مثلاً، هذه التي اختصرت عذابات شعب بكامله، وأصم الآذان كلياً، هو ومن حضر كرنفاله، عن صرخات الأطفال والحوامل التي تمزق أجسادهم الصواريخ الأمريكية والإسرائيلية في فلسطين والعراق، وعلى بعد أقل من مئات وحتى عشرات الكيلومترات من احتفالية البتراء النوبلية هذه... ركز ويزل ومن اصطفاهم في مؤتمره على ما يدعونه "العنف الفلسطيني"... كان هذا منه ليغطي، وهذا هدف من أهداف مؤتمره أساساً، فعائل صائدي الأطفال والحوامل في غزة وخان يونس... حوّل صخور البتراء التليدة إلى منصة إطلاق، تلقى من عليها وتترد في جنبات واديها المعروف بوادي موسى، فرمانات اولمرت التهويدية، وإنذارات وعيده الدموي، اللذين هما اليوم أشد وضوحاً ومباشرة من سطوح شمس نهارات البتراء الصحراوية القائظة...

قبل قدوم أولمرت الميمون إلى البتراء... أي قبل أن قُدِّم ويزل بين يديه أطروحة صهيونية جديدة للمسألة اليهودية ، لعلها ستكون أشد فتكاً على العرب من صواريخ الأباتشي وقنابل الفانتوم ومدافع الدبابات... أطروحة أرادها عربية الوجه لمثل هذه المسألة في هذه المرة، أي أرادها مختلفة عن محطتها الأوروبية المعروفة، أو هو أزاء محاولة تعريب لها، اسمها "العنف الفلسطيني"... قطع أولمرت على نفسه وعداً أمام مؤتمرو المؤتمر الصهيوني العالمي الخامس والثلاثين، باتخاذ ما يلزم ضد الفلسطينيين، والذي هو، كما قال، "إجراءات قاسية، قاسية جداً، أكثر قسوةً وإيلاماً من تلك التي اُتخذت في الماضي"... معتبراً مقاومتهم العنيدة للاحتلال، أو ما دعاه "النشاط الإرهابي الفلسطيني" أمر ما كان ليتواصل لولا المساعدة من قبل ما دعاه "محور الشر" الممتد كما زعم، "بين طهران ودمشق والقاعدة والجهاد العالمي وحزب الله"!!!

... وبعد قدومه إلى البتراء، أعلن أولمرت مواصلة الحرب على الفلسطينيين، أو بالأحرى جدد الإعلان عنها الذي كان، بمعنى أن سياسة المذابح هي في حكم المستمر، ولم ينس، وهو يؤم هذه المدينة العربية العريقة، أن يعيد وهو يقف في كنف أطلالها التليدة التأكيد على المسار التصفوي التهويدي لبقايا الأرض الفلسطينية، فقال جازماً:

"لست ملتزماً بالعودة إلى الحدود التي يحددها أبو مازن أو فلسطينيون آخرون"... ورغم أنه خلع على أبي مازن صفة "الصادق"، وكانا قد استهلا لقاءهما الأول معاً بعناق، وصفه الأخير بأنه كان "حاراً جداً"، إلا أنه، أي أولمرت، لم يتوان في لفت انتباه صادقه إلى ما لا يجوز وفق المنطق الإسرائيلي، والمتمثل في قوله لأبي مازن محذراً: "لا تكافئوا إخلاقياً بين الهجمات الإرهابية الفلسطينية على إسرائيل وبين عمليات الجيش الإسرائيلي"!!!
في البتراء... كان أولمرت هو النجم وكان هو المنتصر أو كان المستفيد الوحيد، كسب له إيلي ويزل معركةً ثقافية تضاف إلى حصيلة حملات وزير حربه عمير بيرتس الدموية، أو مآثر هذا الموصوف بالنقابي المتسلل إلى وزارة الحرب، المشكوك في مؤهلاته الحربية، والذي، على ما يبدو، يريد إثباتها بالصواريخ عبر ممارسة هواية اصطياد الأطفال والحوامل، فتفوق من ثم على جنرالات الموت المحترفين من حوله ... حتى على دموي مثل الجنرال حالوتس مثلاُ، هذا الذي اعتبر مؤخراً، واستناداً إلى فتوى أكاديمية من قبل أمثال نوبليي البتراء، أن "قتل المدنيين الفلسطينيين هو قانوني في حالات معينة"، ويعني بقانوني هذه أن هذا القتل يتفق مع القانون الدولي..!

بالمناسبة إن ما قتله جيش وزير الحرب النقابي المسالم على الطريقة الصهيونية، من الفلسطينيين خلال الشهر الأول من ولايته فحسب، يعد رقماً قياسياً في مسار ملحمة المذابح الإسرائيلية اليومية ضد الفلسطينيين، والمستمرة وقائع، وكذا أرقامها تصاعداً على امتداد العقود التي تلت النكبة الفلسطينية وحتى تسنمه مسؤوليته كمتعهد لموالات تواصلها!!!

في البتراء... حصل ويزل من أبي مازن على فتوى علنية وصريحة تقول:
العمليات الاستشهادية ضد المحتلين هي "جرائم حرب ضد الإنسانية!!!
فماذا، وبالمقابل، ما حصل عليه أبو مازن من احتفالية البتراء؟!
عناق "حار جداً"... ووعد من أولمرت: سنلتقي لقاءات أخرى "ولكي يكون لها معنى فيجب الالتزام بثلاثة شروط غير قابلة للتفاوض"... شروط لا مجال لمناقشتها أو التفاوض حولها مطلوبة من "اللاشريك" نيابة عن شعبه المذبوح، وعليه تنفيذها أولاً، وهي:
"نزع أسلحة المنظمات الإرهابية بشكل كلي، والتطبيق التام للاتفاقات، والاعتراف رسمياً بدولة إسرائيل"!

...وبعد عودة أولمارت من البتراء، محملاً بما منحته إياه من هدايا، عاد فأعلنها مجدداً "حرباً ضد الإرهاب... ومن دون تردد وبكل قوة"!
أما أبو مازن، وقد عاد إلى رام الله، فأخبر مستقبليه بأن حصيلة رحلته إليها اقتصرت على ما يلي:

أنا وأولمرت "تحدثنا في نقطة واحدة فقط، وهي كيف نحضّر للقاء المقبل بحيث يكون هناك تحضير جيد يضمن بنجاح اللقاء"!!!
...انتهى كرنفال البتراء، وأقفل الأوروبيون معبر رفح ليفتحوه ثم ليكرروا ذلك بتعلة تحذير أمنيّ إسرائيلي في المرتين قد يتكرر مستقبلاً... حتى لا يتمكن وزراء حماس في السلطة، العائدين إلى غزة من جولاتهم في الخارج، من تهريب الأموال التي جمعوها من المتبرعين والمحسنين، إلى شعبهم الجائع المحاصر... وعاد النوبليون الغيارى على السلام الإسرائيلي إلى أكاديمياتهم... قفل ويزل بما اشتهى، وانصرف الإسرائيليون لممارسة هواية اصطياد الأطفال والحوامل... انتهت الاحتفالية وعاد من عاد من البتراء... ليتساءل غيارى العرب، هل ما كان فيها وما شابهه أو قد يماثله مستقبلاً في مكان عربي آخر يعد مظهراً من مظاهر التسليم العربي بالهزيمة... هل فيه نوع من الموافقة العربية على النكبة الفلسطينية المتجددة؟!!
...أم هل هو، كما قال البعض، كان مجرد ترويج سياحي مقابل استحقاق تطبيعي؟!

نحن هنا لا نتحدث عن روح ووجدان وقناعات كتلة أمة هي، وقطعاً، لم تسلم يوماً ولن تسلم مستقبلاً بالهزيمة، ويثبت توجهها العميق وعنادها الدائم، ومظاهرهما بادية لمن يريد أن يرى ويسمع ويحس، تمسكها الكامل بحقوقها الكاملة غير القابلة للتصرف في فلسطينها التاريخية، مهما غلت التضحيات وحلكت المراحل وطال الزمن... لكن... إنه زمن طرح التساءلات العلقمية المهينة... في البتراء تململ أجوادنا الأنباط في قبورهم!