بلال الحسن.....الشرق الاوسط

رغم التصريحات الكثيرة المتفائلة عن نجاح الحوار الوطني الفلسطيني، إلا أنني لست من المتفائلين بأن هذا الحوار سينجح. وأول مؤشر على احتمال الفشل هذا، أنه ما أن قيل بأن الاتفاق أصبح وشيكا على «وثيقة الأسرى»، حتى بدأت تطرح مطالب جديدة من نوع حل الحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط. وبات الشك مشروعا بأن الهدف من الحوار ليس الوصول إلى اتفاق، بل إحراج حكومة حماس وإقصاؤها، والتمهيد لعودة حركة فتح إلى السلطة. إنه إذاً ليس حوارا بل صراع سياسي محتدم.

لقد واجهت حركة حماس، منذ أن منحها الشعب ثقته في الانتخابات التشريعية، حربا قاسية متشعبة الجبهات، شاركت بها أطراف متعددة، حتى لو كانت هذه الأطراف ذات دوافع مختلفة وأحيانا متناقضة.

واجهت أولا حربا سياسية إسرائيلية، عنوانها أن حماس حركة إرهابية، وأن إسرائيل لن تتعامل معها، وكان أن أوقفت توريد أموال الضرائب الفلسطينية التي تجبيها من عمليات الاستيراد والتصدير، ثم هددت بوقف تزويد الأراضي الفلسطينية بالماء والكهرباء.

وواجهت ثانيا حربا إسرائيلية عسكرية، تمثلت بالقصف المدفعي الذي يستهدف حتى المدنيين، وبالغارات الجوية، وبعمليات الاغتيال. وكانت المرحلة الاولى من حرب إسرائيل ضد حكومة حماس ملفتة للنظر، إذ كانت الضفة الغربية في الأيام الأولى التي تسلمت فيها السلطة هي مركز المواجهات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، ولكن الضربات العسكرية الموجعة، وإلى حد ارتكاب المجازر، كانت من نصيب قطاع غزة، وبحجة أن قطاع غزة هو مركز القوة لحركة حماس.

وواجهت حركة حماس ثالثا حربا دولية أوروبية ـ اميركية، عنوانها حجب المساعدات المالية عنها، من أجل شل قدرتها على إدارة شؤون الوزارات التي تحت إمرتها. لقد كان حجب المساعدات حرب تجويع لشعب بكامله، وتم تغطية هذه الحرب بشعارات سياسية ثلاثة (الاعتراف بإسرائيل، والتخلي عن الإرهاب، والاعتراف بالاتفاقات الموقعة)، بينما لم يكن هناك أي شعار أميركي أو أوروبي يضع شروطا مقابلة على إسرائيل، فلا أحد يدعوها أو يسائلها عن دورها في تعطيل تنفيذ الاتفاقات الموقعة، ولا أحد يضغط عليها في مسعاها لفرض الحلول على أرض الواقع بعيدا عن التفاوض مع الفلسطينيين. واتسع نطاق حملة الحصار هذه ليشمل كل دولة عربية أو إسلامية تفكر بكسر الحصار وتقديم مساعدات للشعب الفلسطيني. ثم اتسع نطاق الحصار أكثر عبر تهديد البنوك العربية والفلسطينية بأنها ستتعرض للعقاب إذا هي قبلت بتحويل أي تبرعات رسمية أو شعبية.

ثم بدأت حركة حماس تواجه رابعا حربا فلسطينية داخلية، وكانت هذه هي المعركة الأدق والأصعب، نظرا لما تنطوي عليه من خلافات، ومن احتمال صراعات مسلحة. كان عنوان هذه المعركة هو سحب الصلاحيات. قيل لحركة حماس أن لا مسؤولية لها على الأجهزة الأمنية لأن هذه من مسؤوليات الرئاسة الفلسطينية. وقيل لحركة حماس أن لا دور لها في تحديد وجهة التفاوض مع إسرائيل لأن هذه هي مسؤولية منظمة التحرير الفلسطينية. وقيل لحركة حماس أن لا مسؤولية لها في إدارة المعابر الحدودية لأن ذلك يهدد بإغلاقها، وتم وضعها تحت إشراف الرئاسة. وشملت هذه العملية الإعلام أيضا فأصبحت الإذاعة والتلفزيون من صلاحيات الرئاسة. وفي سياق نزع الصلاحيات من حكومة حماس، ألقيت على عاتقها فقط، مسؤولية تأمين الرواتب الشهرية لـ 140 ألف موظف فلسطيني، ومن خلال خزينة مفلسة. وحين لم تستطع حركة حماس أن تجترح معجزة لحل مشكلة الحصار والتجويع والرواتب، بدأت الحملة ضدها تطالبها بالاستقالة والتنحي.

وسط هذه الحملة الإسرائيلية والغربية والفلسطينية أيضا، بدأ البحث في «وثيقة الأسرى» ورفع شعار الاستفتاء، وتم وضع الأمور في سياق مغلق: إما قبول وثيقة الأسرى كاملة وكما هي ومن دون أي تعديل أو تطوير، وإما الاحتكام للشعب عبر الاستفتاء.. وكانت المعادلة على الصعيد الشعبي مطروحة كما يلي: إما استمرار الجوع وإما وثيقة الأسرى والاستفتاء. وبدأ الحوار وسط مناخ بأن حركة حماس ترفض وثيقة الأسرى وترفض الاستفتاء، الأسرى بما لهم من مكانة معنوية كبيرة في نفوس الناس، والاستفتاء بما هو أسلوب ديمقراطي يصعب رفضه، مع توقع بأنه إذا استمر موقف حماس على حاله فإن الاستفتاء سيحسم الأمر لصالح حركة فتح.

ولكن تغيرا طرأ على الوضع. نجحت حماس في دفع الأمور باتجاه مناقشة بنود وثيقة الأسرى بندا بندا، بدلا من النهج السابق القائل إما قبول الوثيقة وإما رفضها. وتبين بسرعة أن 15 بندا من أصل 18 بندا تحظى بموافقة الجميع، وأن الأمر يقتصر على تعديل أو تطوير أو توضيح ثلاثة بنود. وهنا ساد جو من التفاؤل بأن وثيقة الأسرى ستقر، وأن الاستفتاء لا حاجة له. ولكن هذا لم يعجب «الدهاقنة» ولا «شلة التوتير» التي أصبحت معروفة بالاسم. اولئك الذين يناورون من أجل هدف واحد فقط هو إقصاء حكومة حماس، والعودة إلى نعيم السلطة. وبدأنا نسمع فجأة تحليلات جديدة، ومطالب جديدة.

قيل أولا إن التعديلات المقترحة على البنود الثلاثة المتبقية لن تقبل أبدا. قيل إن توضيح النصوص هو تحوير لها يماثل إلغاءها، وتمت العودة إلى المنهج السابق إما القبول بالوثيقة كما هي وإلا فلا. وقيل ثانيا إنه ليس المهم الاتفاق على برنامج وطني (فيما بيننا) بل المهم هو الاتفاق على برنامج سياسي (يرضى عنه مانحو المساعدات). وكان هذا يعني أن هناك سلسلة أخرى من المطالب السياسية لا بد من الإعلان عن الموافقة عليها إضافة إلى وثيقة الأسرى.

وقيل ثالثا إنه إذا تم الاتفاق على وثيقة الأسرى فلا بد أن تستقيل الحكومة وتتشكل حكومة تكنوقراط تترأسها شخصية حيادية.

وقيل رابعا إن الحكومة يجب أن تعرف أنها ليست شريكة في القرار السياسي، وأن مهمتها فقط تصريف الشؤون الإدارية اليومية (حكومة مديرين). وقيل... وقيل أكثر من ذلك حول من هو المسؤول عن إقرار الاتفاقات مع إسرائيل، المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها ممثلة للشعب كله، أم استفتاء أهل الداخل فقط ومن دون أبناء الشعب الفلسطيني في أماكن تواجدهم.

وهنا تبين أن المسألة ليست مقتصرة على وثيقة الأسرى، وليست مقتصرة على الاستفتاء. إذ لا بد من إزاحة أي تيار فلسطيني عن مائدة البحث والحوار والنقاش والقرار، وبخاصة إذا كان هذا التيار يمثل نهجا متشددا في التمسك في الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.

والآن.. نعود ونقول: هنا يتركز الصراع، وعند هذه النقاط تدور المعركة السياسية. لقد كانت وثيقة الأسرى وسيلة فحسب. وكان شعار الاستفتاء وسيلة فحسب. وحين تبين أن الاتفاق ممكن وأن لا لزوم للاستفتاء، برزت المطالب الجديدة لتعيد المعركة إلى منحاها المقرر سلفا.

ولهذا كله نميل إلى التشاؤم، ونبتعد عن تفاؤل المتفائلين بأن هذا الحوار الوطني سينجح، ونأمل رغم كل ذلك بأن نكون مخطئين.

لقد كتب أحد رموز «شلة التوتير» قائلا «امتلكت حماس وثيقة طابو لبيت تسكنه فتح، ولا تستطيع (فتح) ولا تملك ولا يجوز أن تغادره، ليس لأنها ترفض الوضع الجديد كما يقال، ولكن لأن ليس لها مكان آخر غير البيت الذي بنته وسلمت خرائطه ووثائقه إلى حماس، بفعل مغامرة غير محسوبة.. وما أصعب أن يجلس في غرفة القيادة جنرال شرعي لإدارة شؤون جيش لا ينتمي إليه». (الحياة الجديدة 21/6/2006).

هل هناك توضيح أقوى من هذا إلى أن «دهاقنة» حركة فتح سيواصلون رفض وجود حركة حماس في السلطة مهما كان نوع الموافقات المطلوبة منها؟ وأين هم «عقلاء فتح» القادرون على إبقاء الحوار سائرا في نهجه الوطني؟