نصر شمالي

أوصل الهوان عرباً في السلطة وخارجها إلى حالة من الخنوع جعلتهم يحاولون دحض البديهيات الهندسية من أجل تحقيق ما يظنونها مصالحهم! وأي هوان أعظم من تجاهل وقائع التاريخ الحديث للمنطقة العربية، الموثقة والمعاشة والمفهومة، والتطابق مع الخطاب الاستعماري الصهيوني القائل بحق اليهود في فلسطين، وبالمهمة الإنسانية الحضارية للأميركيين في العراق، وبضرورة وعدالة نهوض مزيد من الحدود في البلاد العربية وبينها؟!

لقد جرى تقسيم المشرق العربي إلى دويلات مصطنعة غير قابلة للحياة الطبيعية المستقلة بعد الحرب العالمية الأولى، وجرى تقاسم هذه الدويلات بين المستعمرين البريطانيين والفرنسيين، إضافة إلى التأسيس لإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين بناء على وعد بلفور، وبعد الحرب العالمية الثانية أعلن عن قيام الكيان الصهيوني، وذلك في وقت كانت فيه القوات البريطانية تسيطر على كل من مصر والسودان والعراق، ومنطقة الخليج عموماً، وعدن وفلسطين والأردن، وكانت القوات الفرنسية، والأميركية والبريطانية، تسيطر على مجمل بلدان المغرب العربي، وكانت الولايات المتحدة، بواسطة قواتها العسكرية وشركاتها النفطية، موجودة بقوة في المملكة السعودية، أما سورية ولبنان فكانتا قد استقلتا حديثاً جداً كدولتين، استقلالاً يفتقر إلى الكثير من مقومات الاستقلال الحقيقي، لكن الخطاب الاستعماري الصهيوني أعلن أن اليهود الصهاينة حققوا "استقلالهم" وأقاموا "دولتهم" عبر معارك ضخمة ضدّ الاحتلال البريطاني أولاً وضدّ الجيوش العربية الموحّدة ثانياً، علماً أن تلك الجيوش العربية جميعها لم تكن تتجاوز في حجمها "سبع" القوات الصهيونية، ناهيكم عن التفاوت الهائل في التسلح لصالح الإسرائيليين، المدعومين من قوات الحلفاء الأوروبية الأميركية، وأن القيادة العليا للجيوش العربية كانت في قبضة القيادة الإنكليزية، فما هو الدحض للبديهيات الهندسية إن لم يكن تجاهل هذه الوقائع الثابتة، المعاشة والموثقة؟ وإذا كان تجاهل الأعداء لها مفهوم الأسباب والأهداف فكيف نفهم تجاهل الضحايا الذين صار خطاب بعضهم اليوم يتطابق مع الخطاب الاستعماري الصهيوني؟!

شهادة أنور عبد الملك!

يقول المفكر العربي المصري أنور عبد الملك أن ما حدث في الأربعينات (الماضية) وفي المقدمة إقامة "دولة إسرائيل" كان استمراراً متصلاً لتلك السياسات الأوروبية الأميركية المعادية للعرب، وإن عبّرت عن نفسها بأساليب جديدة، فالواقع والتاريخ معاً يؤكدان أن قضية فلسطين هي آخر حلقة وأخطرها في مسألة الشرق العربي. إن الواقع والتاريخ يؤكدان أن المنطقة المعروفة الآن في الغرب بالشرق الأوسط – شرق الأمة العربية – كانت منطقة الصراع الرئيس المصيري بين دول الشرق وحضاراته من جهة والغزاة الآتين من الشمال من جهة أخرى، وفي هذا يكمن مغزى التاريخ الغربي والشرقي كله. ومنذ القرن التاسع عشر حتى اليوم كانت وجهة الغرب وحروبه وغزواته، وأهدافه السياسية والدينية، والأيديولوجية والفكرية والاقتصادية، تهدف كلها إلى أمر واحد، هو تحطيم جميع المحاولات الهادفة إلى إنشاء دولة عربية في قلب الحضارة الشرقية الإسلامية، كي تفرض أوروبا سيادتها وهيمنتها بالسلاح والفكر. إن الواقع والتاريخ يؤكدان أنه منذ اشتداد أزمة النظام العالمي، وفي مواجهة اشتداد الموجة الثورية داخل الحركة الوطنية التحررية العربية، كان لابد من إقامة السدّ تلو السدّ (للحيلولة دون نهوض العرب) وبناء على بدايات نشأت منذ نهاية القرن التاسع عشر جرى تقسيم فلسطين عام 1947، ثم إنشاء "الدولة" الصهيونية لتكون قلعة الاستعمار ورسول الغرب وسوطاً ضدّ حركة التحرر والوحدة في الوطن العربي. وجملة القول أن الحرب والسلام في الشرق العربي، وأن الأزمة في الشرق العربي، لم تنشأ ابتداء من قضية فلسطين، فجوهر الأزمة إنما هو: إصرار الغرب كله على تقويض أركان القوة الشرقية بقيادة العرب في منطقة البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا وغرب آسيا، ومعنى هذه السياسة، بوضوح ودقة، أن رسالة الغرب الحضارية تتلخص في منع قيام دولة شرقية عصرية في هذه المنطقة، هي دولة الأمة الحضارية المتحدة!

خطاب صاخب إنما أجوف!

أليست إدارة الظهر لشهادة أنور عبد الملك، من قبل الضحايا، هي الهوان الذي ما بعده هوان، والخنوع الذي ما بعده خنوع؟ وإذا كانت الوقائع التي عرضتها هذه الشهادة صحيحة مؤكدة، وهي صحيحة مؤكدة طبعاً، أفلا يكون تجاهلها تجاهلاً للبديهيات الهندسية؟ ثم إن قيام الكيان الصهيوني، وتوالي الاستقلالات الشكلية للدويلات العربية المصطنعة، غير القابلة للحياة الطبيعية المستقلة حقاً وفعلاً، كان إيذاناً بانتهاء زمن إدارات الاحتلال العسكري الأوروبي، وحلول نوع جديد من الإدارات الذاتية المركّبة، البالغة التعقيد، في ظل التأثير السرطاني للكيان الصهيوني، وهيمنة المخابرات الأميركية، ونفوذ الشركات الأجنبية والخبراء الدوليين، يفعلون جميعهم فعلهم في أوساط اجتماعية هشة، وقوات عسكرية ناشئة، وقيادات سياسية جاهلة أو خائنة تكفل معظمها بتدمير بلدانه، المدمرة أصلاً، كما لم يحدث لها من قبل أبداً، وخلف هذه القيادات مستشارون غامضون يساعدونها أحياناً في تحقيق "انتصارات" هي في حقيقتها وفي نتائجها أسوأ من الهزائم بما لا يقاس، كما تخبرنا تجربة الرئيس السادات!

غير أن هذا الخطاب المتطابق مع الخطاب الاستعماري الصهيوني، الذي يصمّ اليوم بصخبه الآذان، والذي يحاول دحض البديهيات الهندسية، يبدو أجوفاً بمقدار صخبه الهائل، فهو يبرز في لحظة تاريخية تفضح خواءه وتؤكد عدم جدواه، حيث خارج المعادلات الرسمية الدولية والإقليمية، وبالرغم منها، انطلقت أخيراً المقاومة العربية بقواها الذاتية مستقلة راسخة القدم كما لم يحدث من قبل أبداً، وقد تبلور هذا التطور التاريخي العظيم ابتداء من انتفاضة أطفال الحجارة التي أصابت القوات الإسرائيلية بالشلل، وها هي المقاومة تغطي اليوم الساحات الفلسطينية واللبنانية والعراقية، فترغم اليهود الصهاينة على الانكفاء في فلسطين، وترغمهم على الخروج من لبنان دون قيد أو شرط، وتحرم الأميركيين من قطف ثمار عدوانهم في العراق وتثخنهم بالجراح، الأمر الذي يعني أن أزمنة النكوص والصفقات والخيبات والدوران في الحلقة المفرغة قد ولّت إلى غير رجعة.