د. نقولا زيدان

ما الذي تريده سورية من لبنان؟ سؤال تاريخي كبير يثير في اللبنانيين القلق والحيرة لطالما ظل يضغط على صدورهم في تاريخهم الحديث وتحديداً في المرحلة الراهنة.

لعلّه بالإمكان منهجيّاً أن نتصوّر أنّ ما تريده سورية بالإمكان إخضاعه للقاعدة التالية: هناك بالتدريج ما يقوله أركان النظام في دمشق، أي هناك ما يملونه على اللبنانيين، وهناك ما يوحون به ويرسلون بصدده الإشارات وأخيراً هناك ما على اللبنانيين القيام به من تلقاء أنفسهم. إلاّ أن كل ذلك يجب أن يتمّ وفقاً لطريق مرسومة معدة سلفاً. بقي أن تعلّم أن جلّ ما عليك أن تفعل هو أن تجد السبيل ثم بعدها لا حاجة للعناء فالطريق نفسه يقودك إلى حيث هم يرغبون.

العقل السوري عقل واقعي وليس طوباويّاً وهو يدرك إدراكاً جيّداً التطوّرات المثيرة التي هزّت العالم في 11-9-2001 ثم أبعاد حرب أفغانستان واحتلال العراق (2003) ويعلم أن ثمّة مفاهيم وعلاقات وأنظمة وموازين قوى قد تبدّلت في منطقة الشرق الأوسط. لذا راح ابتداء من عام 2004 يعيد ترتيب أوضاعه وعلاقاته على هذا الأساس، بمعنى أنّه أدرك أن ثمّة دواعي وأسباباً قد تحمله على الخروج من لبنان، أو على الأقلّ على تقليص حجم سيطرته عليه. ألم يكن هذا وراء إصراره على التجديد للرئيس لحّود؟ وبالتالي إدخال لبنان في طريق وعر مليء بالدم والشظايا وآلام الناس.

إن المشكلة المزمنة مع النظام السوري لا تكمن في التصريحات السياسيّة الصادرة عن قياداته فحسب بل في أسلوبه في التفكير وما يضمر وما يخطّط له وهو انعكاس لذهنيّة وعقليّة وروح ما زالت تسيطر على قياداته، وهي تنضح بالفوقيّة والتعالي والإملاء. فمن جرّاء ذلك لم يعرف لبنان في علاقاته مع دمشق الهدوء والاستقرار على طول امتداد تاريخه الحديث. فقد ظلّت على الدوام هناك مطالب ما، مشاريع ما، مقترحات، أفكار سورية موجّهة إلى اللبنانيين، عنوانها التشكيك بعروبتهم واصالة انتمائهم القومي أو ملامتهم على علاقات مبكرة مع الغرب، هذا ما عدا اعتبار لبنان صدفة تاريخيّة أو خطأ لا فرق وكياناً مصطنعاً أو موقتاً أو مزوّراً.

إنّه ضمن هذا الإتجاه علينا أن نفهم ضبابيّة التصريحات الرسميّة السوريّة حول العلاقات مع لبنان واحتمال تفسيرها باكثر من معنى، كالثقة قبل التبادل الديبلوماسي الخ...

ثم بعدها تفهم لماذا أكبر المآخذ على سياسة الرئيس السنيورة هو السعي في الأوساط العالميّة لتدويل أزمة العلاقات بين البلدين، في الوقت الذي أصبح فيه مطلب العلاقات الندّية أمراً مستحيلاً لأن النظام السوري يرفض ذلك بعناد.

إن سياسة الملاينة والمرونة التي تنتهجها أميركا وأوروبا مع النظام الإيراني والتي كانت لها أدلّة وتعبيرات كثيرة في الآونة الأخيرة قد ساهمت موضوعيّاً بازدياد تصلّب النظام السوري حيال الوضع اللبناني، بخاصة ان أنظمة عربيّة متعدّدة تحاول إقناع طهران على التعاون مع الوكالة الدوليّة للطاقة النوويّة والإستمرار بسياسة المفاوضات ذلك أن علاقات دمشق بطهران تزداد توطيداً فبالتالي يجدها النظام السوري فرصة سانحة لمحاولة استعادة ما أمكن مما فقد في لبنان من نفوذ في الآونة الأخيرة. إن النظام السوري ما زال يندفع بهجوم قاس على الوضع اللبناني، والذين اعتقدوا أنه توقف واستكان بدأوا يدركون عدم دقّة تقديراتهم. أما أهم ملامح هذا الهجوم السوري علينا فهي:

 المضي في سياسة التجاذب والتلاعب والإرجاء حول التبادل الديبلوماسي بين البلدين، والمراهنة السورية على عامل الوقت لإفشال أيّة مساعٍ في هذا الإتجاه.

 إبقاء مشكلة مزارع شبعا معلّقة بين الترسيم والتحديد والإحتلال وواجب التحرير وحق حزب الله بالإحتفاظ بسلاحه خصوصاً بعد حصوله على موافقة جانب هام من الصف المسيحي على ذلك.

 إستمرار مشكلة السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات بعد الإجتهادات الأخيرة حول ارتباطه بحسم الخلافات داخل الأراضي المحتلّة مع إمكانيّة استعماله في أكثر من اتجاه.

 العمل ما أمكن على منح دعم قوي لتشكيل جبهة وطنيّة واسعة تضمّ كل حلفاء وأصدقاء النظام السوري على طول امتداد الساحة اللبنانيّة لمواجهة قوى 14 آذار بخاصة بعد طي ملف إقالة الرئيس لحود من طاولة الحوار.

 تأزيم أوضاع القطاعات النقابيّة الممثّلة للعمّال والمستخدمين والموظّفين وتحريضهم على التحرّك بسبب المشكلات والمصاعب الإقتصاديّة والإجتماعيّة وتردّي وضعهما المعيشي، واستمرار سياسة التضييق والإختناق عند المعابر والنقاط الحدوديّة.

 دفع حكومة السنيورة إلى الإستقالة والإتيان بحكومة أقرب لسياسة دمشق(الميقاتي مثلاً) قد تتمكّن بالتضافر مع قصر بعبدا وعلى خلفيّة قانون الإنتخابات الجديد من حل البرلمان وإجراء انتخابات نيابيّة مبكرة تحدث تعديلاً مؤاتياً في ميزان القوى داخله لمصلحة سورية.

 خلق بؤر توتّر أمني وإرباك للحكومة كما يجري في صيدا وإظهارها بمظهر العاجز عن الإمساك بالوضع الأمني حتى في مسقط رأس رئيسها نفسه.

على ضوء كل هذه الممارسات وما يمكن أن يتبعها من مستجدّات انه من الخطأ بمكان الاعتقاد ان حلاً لهذه العلاقات المتردية يلوح في الأفق.