ما أشبه سورية بأغنيتها الشعبية: طالعة من بيت أبوها (مصر) فايتة بيت الجيران (إيران). ففي حين تشتد حرارة هوى بردى بالنيل، تدخل العلاقة السورية/ الإيرانية مرحلة جديدة تعكس مدى عمق الانقسام العربي، وتوزع العرب على الجبهات الإقليمية والدولية المتصارعة في المنطقة.

لا أدري ما إذا كان الرئيس مبارك سأل الرئيس بشار عن الاتفاق العسكري الذي وقعته سورية مع إيران في منتصف الشهر الحالي. الاتفاق وُقِّع خطفا، وكأن سورية خجولة أمام عشيرتها العربية.

الاتفاق يحمل اسم «اتفاق تعاون عسكري». وإذا كان لسورية بشار أن تدافع عن الاتفاق، فبإمكانها القول إنه لا يختلف عن الاتفاقات العسكرية العربية المعقودة مع أميركا وغيرها. وهي كلها، مع الاتفاق الجديد مع إيران، مخالفة لوحدة الأمن القومي العربي الذي تعبر عنه معاهدة «الدفاع المشترك» النائمة في متحف الجامعة العربية.

غير أن الطابع الخطير للاتفاق كونه يأتي في ظرفٍ تواجه إيران احتمال الانزلاق نحو صدام مسلح مع الولايات المتحدة. من هنا، ينبثق التساؤل عما إذا كان الاتفاق يرتب على سورية واجبات ومسؤوليات تجاه إيران، في نزاع لا مصلحة لسورية في التورط فيه.

نعم، هناك تعاون عسكري معروف وواضح بين سورية وإيران في تغذية جعبة «حزب الله» بالسلاح. لكن هل الاتفاق الجديد يعتبر العدوان على إيران عدوانا مباشرا على سورية يقتضي، مثلا، تحريك جبهة «حزب الله» مع إسرائيل، أو الاحتمال الأبعد وهو تحريك جبهة الجولان؟ هل ينص الاتفاق على مرابطة قوات وصواريخ إيرانية في سورية؟

سورية لديها احتياطي بشري مدرب عسكريا يكفيها الحاجة إلى قوات إيرانية، ولديها صواريخ كورية تغطي إسرائيل، وليست بحاجة إلى صواريخ عابرة للقارات (باليستية) تقوم إيران حاليا بتطويرها. وهكذا، فمن وجهة نظر عسكرية بحتة، تبدو عسكرة العلاقة الإيرانية/ السورية مجرد علاقة أفلاطونية ليست بذات قيمة استراتيجية، في غياب عامل الوصل الجغرافي بين البلدين. وهو هنا العراق.

في الكشف المبكر لبوادر الاستقطاب في المنطقة، كنت أشرت، هنا في «الشرق الأوسط»، إلى انخراط سورية في الفلك الإيراني، بعدما كانت العلاقة متكافئة في عصر الأسد الأب. وقد زاد انضباط دوران القمر السوري حول الشمس الإيرانية المتوهجة، بعد مقتل الحريري وفقدان سورية وجودها العسكري في لبنان.

بات التنسيق تاما بين البلدين، وصولاً إلى زيادة جرعة الأسلمة الرسمية للمجتمع السوري، والسماح لإيران بفتح حوزات للتشييع، وللبحث عن قبور «أولياء» الشيعة، ثم إلى اعتقال وربما تسليم بعض العرب الإيرانيين اللاجئين من عربستان (خوزستان الإيرانية).

يبقى العراق نقطة التباين الوحيدة بين البلدين. في فشل الوحدة البعثية بين العراق وسورية، اكتشف الأسد الأب إيران. لمضايقة صدام خلال حربه العبثية مع إيران، سد الأسد أنبوب تصدير النفط العراقي، وأغلق الموانئ السورية في وجه تجارة «الترانزيت» التي كان العراق في أمسِّ الحاجة إليها خلال الحرب. وأبقى القاعدة العسكرية البحرية في طرطوس التي تقدم تسهيلات للأسطول الروسي في المتوسط.

غير أن حسابات الأب الدقيقة منعته من التورط في الحرب بفتح جبهة قتالية وراء ظهر صدام. بل وصلت حكمة الأب إلى معارضته الخميني علنا في محاولته اليائسة لاختراق الأرض العراقية، بعد انكفاء «قادسية صدام» وتحولها من الهجوم إلى الدفاع.

إيران اليوم تلح على الأسد الابن لإقامة علاقة تعاون وتنسيق مع النظام الشيعي الحاكم في العراق الذي تلقي بثقلها اللوجستي والمادي والسياسي وراء رجاله وميليشياته. نقطة الخلاف تتركز في خوف سورية من أن يؤدي استقرار هذا النظام إلى استدارة «الجيران» الأميركيين نحو دمشق، والتفرغ لقلب نظامها.

أما إيران فترى استقرار النظام العراقي فرصة ذهبية لتحويل «الهلال» الشيعي إلى «بدر» يتوهج في سماء منطقة تمتد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسورية. وإذا كان صعبا مرور الهلال في سماء بغداد، فلا بأس في تمريره مؤقتا عبر البصرة التي قد تصبح عاصمة لمنطقة حكم ذاتي شيعي في جنوب العراق، تهيمن عليها إيران، ويطالب بها عبد العزيز الحكيم قائد ميليشيا «بدر»، وأحد غلاة رجال إيران في العراق.

الزواج مع إيران وعسكرة العلاقة، لم يمنعا سورية «المتحررة» من مغازلة مصر. الشطارة في الأدب الديبلوماسي السوري تسمح بسماع بشار نصائح مبارك على مدى ثلاث ساعات. لكن الإنصات باحترام للنصيحة المصرية الأبوية لا يعني، كما دلت التجربة، الاستفادة دائما من حكمتها والعمل بها.

مبارك ينصح سورية بمصالحة لبنان، وربما الاستجابة لمطلب فتح سفارة لبنانية في دمشق، يرى فيها اللبنانيون تأكيدا لهم بأنهم مستقلون حقا عن سورية. ربما نصح أيضا بالمضي قدما في ترسيم الحدود، والسماح للبنان بإنهاء وجود الميليشيات الفلسطينية المسلحة والمدعومة سورياً، خارج المخيمات.

شيء من هذا القبيل لم يحدث. الرد الجاف للوزير وليد المعلم يعبر عن الغضب السوري على «ازدواجية» السنيورة المتلهف علنا على زيارة العاصمة السورية التي تتهمه باستعداء العواصم الكبرى ضدها سرا.

في المقابل، هناك ازدواجية سورية في مسايرة نصيحة مبارك علنا بعدم «تقسيم» الفلسطينيين، ومسايرة إيران ضمنا في تبني «حماس» مشعل ضد حماس هنية وغزة، وضد سلام عباس مع إسرائيل. هذه الازدواجية تقنع الواقعية المصرية بالحاجة إلى لقاءات أطول وأكثر مع سورية، بحيث يتسع الأمر في النهاية لإصدار بيان مشترك لم يصدر، ولمؤتمر صحافي بين مبارك والأسد لم يعقد.

لعل الأردن يرى نفسه مؤهلاً للحلول محل سورية في المحور الثلاثي مع السعودية ومصر، منتهزا ما يراه «فتورا» سعوديا تجاه سورية، بعد اغتيال الحريري، وبعد توثيق الزواج السوري/ الإيراني وعسكرته. من هنا الدلال الأردني على الخليجيين لتلبية حاجاته النفطية، ودلاله في شكواه ضد سورية لدى محكمة مبارك.

ذهب مبارك إلى تأكيد وجود خلاف سوري/ أردني متفاقم. هذه الواقعية الصريحة أزعجت البلدين الخجولين من الاعتراف علنا بوجود خلاف، وكادت تلغي لقاء مبارك/ الأسد. ولعل مبارك نجح في التمهيد للقاء الوزاري الرفيع بين البلدين المتخاصمين في دمشق. ولعله نجح في إقناعهما بعدم استخدام الأصوليين الحماسيين وغير الحماسيين في القيام بنشاط مخابراتي تخريبي متبادل.

قد يكون إرواء الأردن الفقير الظامئ بالنفط الخليجي والمياه السورية، حاجة ملحة حقا. لكن أود أن أهمس في الأذن الأردنية المرهفة السمع، بأن الإلحاح على استمرار جعل العلاقة مع إسرائيل قاعدة تنطلق عليها السياسة الأردنية العربية والدولية، هو، في اعتقادي وآمل أن لا أكون مخطئا، فوق طاقة أي محور سياسي عربي، على تحمله وقبوله.