نجيب نصير

قادتني الصدفة لقراءة مجموعة من رسائل مشاهدي التلفزيون، تسرد قصص حب متنوعة قياسا على احد المسلسلات التلفزيونية الناجحة التي عرضت مؤخرا، ومع أني لم اقرأ كل الكم الهائل الذي ورد عارضا قصص حب فاشلة بحيث يمكن الخروج بنتائج إحصائية عن مجموعة من القيم الثقافية التي تتحلى (أو لا تتحلى بها إطلاقا) المجتمعات العربية، إلا أنني قرأت كما لا بأس به يعطي ملاحظات محورية على الرغم من كونها أولية أو ربما تأسيسية لدراسة حول الحب في المجتمعات العربية هذه القيمة التي لما تزل ملتبسة على الرغم من كونها أساس الحياة البشرية مما يدعو للسؤال هل هذي المجتمعات تعرف الحب ؟ خصوصا في ظل الزمن وما يعنيه من أدوات (الانترنت - الموبايل - السيارة - الطائرة - المولات أو الأسواق الضخمة)؟

أولى تلك الملاحظات المحورية هي استخدام الانترنت وتحديدا الشات (المحادثة الافتراضية): حيث يفاجئ المرء من كمية التعارفات واللقاءات الصادقة والوهمية على هذه ( الماكينة ) فالقسم الأكبر من الرسائل تم فيها التعارف على الانترنت، أي في منطقة وسطى ليست واقعية وليست خيالا في نفس الوقت، علاقات حب حميمة، أسرار إلى ابعد مدى، يتم تداولها في ظل حماية الشبكة التي تبيح للمرء الهروب ساعة يشاء أي التهرب من ذاته كما هي إلى ذات افتراضية، في هذه الملاحظة الكمية ما يفرح ولكنه من طرف مقابل يبدو وكأنه تدريب تربوي على الفصام ليس مع الذات وإنما مع العصر ومع الأداة، حيث يتم جر العصر إلى قيم ماضوية و (الماكينة) إلى استخدام ليس لها.

الملاحظة الثانية هي ورود هذه الرسائل / القصص عبر الايميل (وكلمة البريد الالكتروني تبدو بالية بشكل حقيقي) أي ان هناك استخدام واسع لهذه الطريقة مما يدعو للتساؤل... ولكن الإجابة تأتي سريعا... ألا وهو السرية فكل الكتاب تقريبا ( 99% ) كتبوا وأرسلوا بأسماء وعنوانين وهمية ومؤقتة، فلا مكان واضح انطلقت منه الرسالة إلا ما نضح منها من عادات وتقاليد يمكن ان تشي بالمكان، ولا أسماء حقيقية وكأن الإنسان الحقيقي ( غير الافتراضي ) لا يحق له الحب والفشل به أو تذوق متعه، وكأن الإنسان الحقيقي لا يقوى على الانتماء إلى مكان أو اجتماع هو في عمقه يرفض الحب. ليتم تحويل المجتمع عبر هذه الآلة العجيبة إلى وهم وإخلاص هو خلاص الفرد بذاته لذاته.

الملاحظة الثالثة هي تشريف الذات فالكل يرفض ان يكون عاشقا أو معشوقا إلا إذا كان مضطرا لذلك، لدرجة انه يحمل المسؤولية وكإثم إلى الطرف الآخر خصوصا إذا كان هذا الطرف الآخر أنثى ( معيدا اسطوانة الفتنة ) ليتحول الحب إلى تصرف - (وليس إلى علاقة ) - مخل بالآداب العامة والأخلاق الخاصة والتربية الأسرية، لقد تمت الكتابة عن قصص الحب كضعف بشري قد ( وليس مؤكدا ) إلى الاشتهاء والجنس، فتم سحب الاعتراف به والمسؤولية عنه، ليتحول الفشل كتجربة إنسانية اعتيادية إلى إدانة للمشاعر البشرية وكعبرة تأثيمية لخطوة خاطئة يقدم عليها مطلق إنسان.

هذه ملاحظات أولية عن مجتمعات تتطلع إلى الانتصار في مواجهتها مع الحياة شباب يؤثم ذاته لاعترافه بقيمة حياتية راقية معلنا عدم مسؤوليته عن هذا الشطط المؤقت ربما أدان الانترنت ربما أدان الموبايل وربما وربما الخ، ولكنها ثقافة... ثقافة مجتمعة تعيد إنتاجا ذاتها بصورة أكثر بؤسا مع كل ارتقاء إنساني.