اسرائيل تجتاح غزة. اسرائيل تحاصر غزة وتقفل المعابر اليها. اسرائيل تحظر على الرئيس الفلسطيني مغادرة غزة. اسرائيل تهدد رئيس الوزراء الفلسطيني وعدداً من الوزراء بأنها تريد رؤوسهم. اسرائيل تقصف وتدمر البيوت والمدارس والجسور ومحطات الكهرباء. اسرائيل تقتل العائلات في بيوتها وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ. اسرائيل تنشر الرعب وتعربد معلنة انها تحتاج الى مجازر جديدة لتروي غليل جنودها. اسرائيل دولة ارهاب الدولة متعطشة للدم.

الجندي المخطوف أفضل ذريعة للتمرين الدموي الآتي. كأنهم قرروا التضحية به ليدخلوا ويفعلوا ما يشاؤون، ليقتلوا ويأسروا من يشاؤون. الشعار «ضرب البنية التحتية للارهاب». يمكن بيعه دولياً، فهناك شارٍ اميركي جاهز ومتحفز. الهدف، الى المزيد من الاجرام والانتهاك والإذلال، المزيد من العبث بالتناقضات الفلسطينية والضغط عليها. ولأغراض الدعاية لا بأس في القول ان اسرائيل تقوم بـ «عملية محدودة». عملية أخرى زائدة، كأن اسرائيل لم تحتل قطاع غزة طوال أربعة عقود، كأنها لم تجرب كل قوتها وحقدها ووحشيتها.

اسرائيل جعلت من كل ذلك خبراً عادياً، وحدثاً غير مؤهل لأن يحرك القانون الدولي، بل لا يستحق ان تنظر فيه الهيئة «الرباعية». أصبح الطبيعي ان تقوم اسرائيل بكل المخالفات والجرائم التي تناسبها، واصبح من غير الطبيعي وغير القانوني ان يرد اي طرف فلسطيني على الاغتيالات وقصف السكان الآمنين. الأسرة الدولية المتهاونة باتت تحمي الدولة المحتلة بـ «شرعية استثنائية». الاسرة العربية الحائرة والعاجزة لم تعد تستطيع حتى مجرد الكلام دفاعاً عن حقوق ليس للشعب الفلسطيني وحده وانما لشعوب منطقة باتت كلها منتهكة اسرائيلياً.

الاعتداءات الاسرائيلية التي تكررت على نحو موتور في الاسبوعين الأخيرين كان لها هدف محدد: انهاء حكومة «حماس»، وفقاً للجدول الزمني الذي وضع غداة فوزها في الانتخابات. قصف شاطئ غزة وقتل عائلة هدى غالية. قصف عائلة أخرى في منزلها. اغتيالات يومية. قصف الأبنية السكنية... كان في ذلك اشتغال على تماسك «حماس» والتزامها المعلن بـ «التهدئة»، وسط معلومات غير مؤكدة عن تململ في صفوف الجناح العسكري للحركة واستعداده للتمرد في حال قدمت القيادة تنازلات سياسية في الحوار الوطني. إذاً، كانت اللحظة مناسبة وحساسة. لكن لم يحسب احتمال خطف أحد الجنود. أما وقد حصل فلا بأس في استثماره.

لكن مثل هذه الدوامة المغلقة والمفرغة كانت قبل حكومة «حماس» واستمرت معها. انها أداة العمل لجيش اسرائيلي يعمل بعقلية عصابات. فاسرائيل التي لم تعترف بـ «هدنة» ولا بـ «تهدئة» استماتت لقتلهما نهائياً. والمسؤول عن هذه الدوامة ليس الناخب الفلسطيني وانما المجتمع الدولي الذي يدعي ان لديه مشروع حل هو خريطة الطريق، لكنه لا يسعى الى تفعيله، والذي يعجز عن اعادة التفاوض الفلسطيني - الاسرائيلي بل يشجع اسرائيل على المضي في «خطة الفصل»، والذي يتغاضى عن ايجاد ضوابط للوضع طالما ان ليس لديه اي مبادرة لكنه يجتهد لايجاد تبريرات لتمادي الوحشية الاسرائيلية.

وإذ بدأت اسرائيل عملية «متدحرجة»، كما تسميها، فإنها لا تعلم على الأرجح متى ستنهيها، بمعزل عن مصير الجندي الذي أضيف اليه مستوطن مخطوف في نابلس. ومن شأن ذلك ان يدعو المجتمع الدولي الى اعادة النظر في مباركته لـ «خطة الفصل» الاسرائيلية لأنها تظهر الآن على حقيقتها كخدعة للحصول على شرعية دولية لمحاصرة منطقة وجعلها سجناً لأهلها، ولإعطاء قوة الاحتلال حق ان تصبح قوة حصار تحرم الناس الماء والكهرباء والطعام وحتى امكان ايصال الجرحى الى المستشفيات.

ولتكتمل الصورة لا بد من الإشارة الى ان الاجتياح الاسرائيلي لغزة يجتاح ايضاً ما وصف بأنه اتفاق بين الفصائل على «وثيقة الاسرى». هل يبقى هذا الاتفاق، هل يصمد، هل يحافظ على ذاته وهل تكون له اي فاعلية؟ بالنسبة الى اسرائيل كان ولا يزال مرفوضاً انجاز اي اتفاق فلسطيني. أما الاجتياح نفسه فيعيد الجدل الى ما كان عليه بين السلطة و «فتح» من جهة وبين «حماس» من جهة أخرى، على قاعدة ان العملية التي أسرت الجندي الاسرائيلي انما كانت خطأ، أما الاعتداءات الاسرائيلية التي سبقتها فهل كانت تستوجب السكوت وضبط النفس؟